تحتفل الحياة الشعرية المصرية هذه الأيام ببلوغ الشاعر المصري محمد عفيفي مطر عامه السبعين، من عمره المديد الذي سلخ معظمه في وضع بصمة مميزة في خريطة الشعر العربي الحديث. والحق أن شأن مطر معنا - نحن جيل السبعينات في مصر وما بعده - شأن الشاعر العربي القديم حينما قال:"أعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني"فهذا ما حدث مع مطر، علمنا الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعدنا أو توهمنا ذلك رميناه. بعضنا رماه بغلظة حتى شبه مطر بخيل الحكومة العجوز الذي لا يستحق سوى رصاصة الرحمة. وبعضنا رماه بلين فاعترف بفضله وبضرورة تجاوزه في آن واحد. وبعضنا رماه بجدل صحي فقدّر منجزه الشاسع من ناحية، واختلف مع بعض شعره وبعض رؤيته وبعض موقفه من ناحية ثانية، مثمناً عمله الكبير في كل حال. وكنا نقول له مع كل رمية، غليظة كانت أو لينة أو صحية: هذا قدر الآباء فتحمل قدرك، وهو حق الابناء بل واجبهم فتحمل حق وواجب الابناء. والواقع أن علاقتنا المركبة بالشاعر محمد عفيفي مطر، حفلت بالمزيج المعقد بين المؤتلف والمختلف، وبحالة ساطعة من حالات الوحدة والتنوع. على أن الأهم هو أن هذه العلاقة المركبة كشفت عن تخبط مفهوم"قتل الأب"عند شعراء السبعينات في مصر وما بعدهم من أجيال تجاه مصر. فبعضهم مارس ذلك المفهوم ممارسة ضيقة جعلته مراهقاً بصفته قتلاً فيزيقياً وإنكاراً كاملاً لمنجز الأب، واسقاطاً تاماً من الذكر والذاكرة. وبعضهم مارس ذلك المفهوم ممارسة مسؤولة، عميقة وراشدة، بصفته عملية حيوية تنطوي على معرفة الأب وهضمه وتمثله ثم إفرازه خلقاً آخر مختلفاً، في ما يسمى"التجاوز"أو"القطيعة المعرفية"الجدلية السليمة. دروس مطر لجيلنا كثيرة، لكنني سأقتصر منها على درس واحد. كنا متحلقين حوله في أحد أيام 1975 في منزله في كفر الشيخ حينذاك حيث كان يعمل مدرساً، كنا مجموعة من شباب الشعراء، ودار حوار طويل حول التزام الشعر من عدمه، وما هي حدود ذلك الالتزام؟ وهل هو ملتزم بالحياة أم بالانسان أم المجتمع؟ حينئذ قال مطر قولته الكبيرة المفاجئة"الشعر ملزم - بكسر الزين - لا ملتزم". أدهشتنا الجملة المباغتة الشجاعة وصرنا بعد ذلك نحفظها ونتأملها مع الأيام، ليتأكد لنا مع السنوات كم هي صحيحة وناجزة، ليس فقط لأنها قلبت الحوار في مثل هذه القضايا رأساً على عقب، ولكن كذلك لأنها ترسخت في الواقع عاماً بعد عام، حتى انتصرت انتصارها الساطع. صار كل شعر جميل وشعر مطر في قلبه ملزماً، ملزماً للنقاد حتى يجددوا آلياتهم ويكيفوا مقارباتهم بحسب ما يمليه الشعر نفسه، وملزماً للحياة الشعرية حتى تعيد تصنيف الشعر والشعراء وفق حقائق الشعر نفسه لا وفق البروباغندا وكثرة الغوغاء، وملزماً للقراء حتى يعدلوا من منظور أذواقهم لتنسجم مع الشعر الجاد العميق. قدّرنا مطر كثيراً، واختلفنا معه قليلاً: أكبرنا فيه ثباته على الشعر الصعب، على رغم المغريات او العواصف واحترمنا فيه مزيجه المعقد بين الفلسفة والتراث وأساطير القرية وفلكور الزراعة ومكنة اللغة ودلال تفعيلة الخليل. ولم نستسغ منه إفراطه في الحوشي المهجور من لغة القاموس الجامدة ونزوعه نحو صفاء الماضي حتى يشارف إكبار السلف على الخلف. لكننا في الحالتين - التقدير والاختلاف - أحببناه ورفعناه فوق الرأس راية وعلامة. شاعر وناقد مصري