تخيّل أن كل كلمة تكتبها، وصور تضيفها، وكل ريتويت وإعجاب تضغطه.. يتحول إلى "ملف" صغير يرافقك في رحلتك اليومية، يسبقك إلى الأماكن، ويقف أمامك حين يقرؤك الناس لأول مرة، فلم نعد نعيش في زمن تقتصر فيه السمعة على المجالس واللقاءات؛ نحن نعيش اليوم في عالمٍ افتراضي لا يكتفي بأن يسمعك، بل يعرضك، ويكوّن عنك صورة قد لا تشبه ما تدركه عن نفسك. السمعة الرقمية اليوم ليست ترفًا ولا إضافة هامشية، بل هي الجزء الأكثر حضورًا منّا، الجزء الذي يرانا الآخرون قبل أن نراهم، ويكوّن انطباعه قبل أن ننطق بكلمة؛ إنها رصيدك اللامرئي.. رأسمالك الذي لا يُقاس بالأرقام، لكنه يُقاس بالثقة، وبطريقة حضورك، وبما تتركه من أثر حتى بعد غيابك؛ وفي زمنٍ يتداخل فيه العام بالخاص، والمهني بالشخصي، واللحظة العابرة بالأرشيف الدائم، بات السؤال الحقيقي: كيف نصون هذا الرصيد؟ وكيف نحافظ على صورة لا تضعف أمام العواصف، ولا تهتز أمام كلمة نكتبها بلا وعي؟ تُبنى السمعة بالسنوات وقد تُهدم بلحظة، فهي "رصيدك اللا ملموس" الذي يسبقك إلى كل مكان، وهي الانعكاس الدائم لتصرفاتك واختياراتك وحتى لحظات صمتك عند الجدل، ولم تعد إدارة السمعة الرقمية حكرًا على الشركات أو المشاهير، بل أصبحت مسؤولية كل فرد يمتلك حسابًا أو بريداً إلكترونيًا أو يظهر بأي صورة عبر المنصات. تبدأ إدارة السمعة من الوعي بالانطباع. فعندما يكتب أحدهم اسمك في "قوقل"، ماذا سيظهر؟ دراسة Pew Research كشفت أن 60 ٪ من البالغين حول العالم سبق أن بحثوا عن أسمائهم مرة واحدة على الأقل، وأن أكثر من نصفهم غيّروا سلوكهم بعد رؤية ما ظهر عنهم، وهذا يعني أن أول خطوة لإدارة سمعتك الرقمية هي مراقبة حضورك بانتظام، لا خوفًا، بل وعيًا ومسؤولية. والاحتراف في السمعة الرقمية لا يعني أن تكون بلا أخطاء، بل أن تتعامل مع الخطأ بذكاء. فحين تواجه نقدًا أو إساءة، لا تنجرف إلى الردود الانفعالية. تقرير Harvard Business Review 2022 يؤكد أن 72 ٪ من الجمهور يثقون أكثر بالأشخاص أو الجهات التي تعترف بالخطأ وترد بشفافية ولباقة، مقارنة بمن يتجاهلون أو يبررون، لذلك، كن صريحًا عند الخطأ، واضحًا في التوضيح، ومتزنًا في الرد.. وتذكّر دائمًا أن "الصمت أحيانًا تواصل"، ففي زمن يتحدث فيه الجميع، يصبح من يحسن الصمت في لحظات التوتر أكثر احترامًا وموثوقية. كثيرون فقدوا سمعتهم الرقمية لأنهم لم يعرفوا متى يتوقفون عن الكتابة، اسأل نفسك قبل كل رد: هل سيضيف قيمة؟ أم سيضيف ضجيجًا؟ وتُبنى السمعة الرقمية بالمحتوى قبل الكلمات، فالمشاركة المنتظمة لمحتوى نوعي وهادف تعزز صورتك المهنية والشخصية؛ فتشير دراسة HubSpot 2023 إلى أن الأشخاص الذين ينشرون محتوى معرفيًا أو مجتمعيًا بشكل منتظم ترتفع مصداقيتهم بنسبة 60 ٪ مقارنة بمن يكتفون بإعادة النشر أو المجاملات، المحتوى الإيجابي الواقعي المتوازن هو أفضل وسيلة لبناء سمعة لا تهزّها العواصف. وفي بيئة العمل السعودية التي تتجه بخطى سريعة نحو الرقمنة الكاملة، أصبحت السمعة الرقمية عنصرًا مؤثرًا في التوظيف والترقيات؛ وفق LinkedIn 2024، فإن سبعة من كل عشرة من مسؤولي الموارد البشرية يراجعون حسابات المتقدمين قبل المقابلة الأولى، وواحدًا من كل ثلاثة استبعد مرشحًا بسبب منشور غير مهني أو تعليق سلبي.. ولذلك، احرص على أن تكون لغتك الرقمية امتدادًا لقيمك، لا انعكاسًا لانفعالات الآخرين. تجنّب الجدالات التي لا طائل منها، ولا ترد على كل رأي مخالف، ولا تخلط بين المزاح الجيد والتهكم الجارح، فسمعتك ليست ما تكتبه عن نفسك، بل ما يراه الناس فيك من سلوك متكرر وثابت. وفي النهاية؛ سمعتك الرقمية تتبعك أينما ذهبت، وتكبر كلما سطع عليك الضوء.. فاحرص أن يكون حضورك جميلًا، متوازنًا، ومضيئًا بالصدق واللباقة والاحترام، لأن الكلمات التي تكتبها اليوم قد تُقرأ غدًا في سياقٍ لا تتوقعه، ولأن الإنترنت لا ينسى، لكنه يكافئ من يحسن الظهور فيه بوعي ومسؤولية.