هل تعلم أنه لو سألت جدك أو والدك عن السفر بالطائرة قبل عشرات السنين، لقال لك على الأغلب إن الرحلات الجوية في الماضي كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم؟ صور المسافرين في الستينيات والسبعينيات تكاد تنطق وحدها: مقاعد واسعة تشبه الأرائك المنزلية، مساحات رحبة تمنحك شعور الجلوس في مجلس منزلي، وخدمات راقية وطعام يُقدم كما لو كنت في مطعم فخم من فئة الخمس نجوم. وما يزيد الأمر إثارة للدهشة أن سرعة الطائرات التجارية منذ الستينيات إلى اليوم لم تتغير تقريبًا. الجواب باختصار: الاحتكار. فقد أصبح سوق تصنيع الطائرات التجارية، وخصوصًا الطائرات عريضة البدن التي يعتمد عليها المسافرون في الرحلات الطويلة، محصورًا بيد شركتين فقط: إيرباص وبوينغ. إذ تستحوذان معًا على نحو 95 % من الطلبات العالمية في هذا القطاع. وكلما ضاق السوق على لاعبين اثنين فقط، تراجعت المنافسة، وتراجعت معها الكفاءة والابتكار، وتدهورت تجربة المسافر عامًا بعد عام. لم تعد الشركات تهتم بمساحة المقاعد أو راحة الركاب. لم تعد الخدمات كما كانت، وبعض الرحلات اليوم لا تقدم حتى وجبة بسيطة، والازدحام داخل الطائرات بات أشبه بعلبة سردين، كما يقول كثير من المسافرين. وقد عبر جون كينيث غالبريث عن هذه الحالة بدقة حين قال: «عدو المستهلك الحقيقي هو الاحتكار». وعندما يمتلك المحتكر السوق، فإنه لا يكترث كثيرًا لرأي المستهلك أو لانطباعاته. وكما قال مارك توين: «صاحب الاحتكار رجل بلا منافسين، ولذلك لا حاجة له أن يكون مهذبًا». إذا عدنا إلى مقاييس التركز في القطاع لاكتشاف مدى قوة الاحتكار فسنجد التالي: نسبة تركيز الشركتين CR2 تتجاوز 90 % — وهي نسبة تكشف عن سوق شبه مغلق. مؤشر هيرفيندال–هيرشمان (HHI) - وهو مؤشر عالمي لقياس الاحتكار - يقترب من 5000 نقطة، في حين أن أي قطاع يتجاوز فيه المؤشر 2500 يُصنف بأنه «شديد التركز» ومثير لمخاوف احتكارية. هذا الوضع يؤدي إلى منافسة محدودة، إبداع أقل، وارتفاع في التكاليف، تمامًا كما قال ويليام نيسكانن: «الاحتكار يولد عدم الكفاءة». ويزيد الاحتكار أيضًا من هشاشة سلسلة التوريد العالمية، ويقلل من خيارات شركات الطيران عند شراء الطائرات، ويُبطئ الابتكار بشكل ملحوظ. وهو ما نراه جليًا في قطاع الطيران التجاري الذي لم يشهد تغييرات جوهرية منذ منتصف القرن الماضي. وهنا يحضر قول ساتيا ناديلا: «الابتكار يموت عندما تهيمن شركة واحدة». قد يظن البعض أن الطائرات تطورت بالفعل خلال الستين عامًا الماضية، لكن الواقع أن: ما تطور حقيقة هو التكنولوجيا الخارجية المحيطة بالطيران: الإلكترونيات، الشرائح، الشاشات وسماكتها، والكمبيوترات والأنظمة الرقمية، الترفيه، المواد المركبة، والمحركات التي طورتها شركات متخصصة مثل Rolls-Royce، GE، وPratt & Whitney. أما أساس قطاع الطيران، سرعة الطائرات، نماذج التصميم، شكل التجربة، فقد بقي شبه ثابت منذ الستينات. ورغم حظر الطيران فوق الصوتي بعد الكونكورد، إلا أن هذا الحظر كان يمكن تطوير حلول هندسية لتجاوزه، لكن الشركتين المسيطرتين لم تعودا تكترثان لأنهما في وضع مريح يضمن لهما أغلب الطلبات دون منافسة حقيقية. والسبب بسيط: لا توجد شركات جديدة تدخل السوق. والشركات الصغيرة الموجودة تُترك للفتات. وهنا نستعيد قول ألفريد مارشال: «الاحتكار يعطل القوى الطبيعية للمنافسة». في الأسواق المحتكرة، لا توجد حوافز لخفض التكاليف أو تحسين الجودة، ولهذا ترتفع الأسعار باستمرار دون مقابل، وتتدهور الخدمات عاماً بعد عام. وإذا لم يدخل لاعب أو لاعبان جديدان كبيران في القطاع ويمتلكان القدرة على قلب المعادلة بابتكار، وجرأة، وتكنولوجيا جديدة، فإن القطاع سيستمر في الترهل والانحدار كما هو حاله اليوم. قبل ظهور شركات الفضاء الخاصة، كانت تكلفة الإطلاق إلى الفضاء خيالية وتعتمد على برامج حكومية مكلفة مثل مكوك الفضاء (1981–2011). لكن دخول SpaceX وBlue Origin غير المعادلة بالكامل: تقنيات إعادة الاستخدام، مثل هبوط المرحلة الأولى، قللت التكاليف ب20 إلى 30 مرة لكل كيلوغرام إلى مدار الأرض المنخفض (LEO). أصبحت عمليات إطلاق الأقمار الصناعية والمهمات المدارية أرخص وأكثر كفاءة مما كانت عليه في أي وقت مضى. هذا ما تفعله المنافسة: تُخفض الأسعار، وتزيد الكفاءة، وتُطلق شرارة الابتكار. لذلك، نتذكر كلمات ثيودور روزفلت: «الشركات الكبرى يجب ضبطها لمنع الاحتكار». فقطاع الطيران التجاري اليوم يحتاج ضبطًا، وانفتاحًا، وظهور لاعبين جدد، وإلا فسيظل المسافر يدفع المزيد مقابل خدمة أقل، بينما يواصل الاحتكار خنق الابتكار وتحجيم المستقبل.