يحدث فى كثير من الأحيان - وأنت فى طريق سيرك اليومى المعتاد - أن تنسى الكثير من المعالم والمباني واللوحات التي تمر بها من أشكالها وألوانها وأطوالها وماتحتويه من أشكال وزخارف وكذلك الأشياء الملقاة في الطريق.. الخ، كل ذلك لأنك اعتدت المرور بها فانشغل عنها وعيك وعقلك الظاهر ولأنها ليست من إهتماماتك، والعكس من ذلك حين يمر أحدهم ولو لمرة واحدة مع طريقك فيخبرك واصفاً مكاناً فيه (بعد المخرج الفلانى وقريب من ذلك المبنى الفلاني والذي تظهر عليه تصدعات ولونه ترابي..!) وأنت مندهش مما يقول فتجيبه بأنك لا تتذكره وقد تحلف له بأغلظ الأيمان فيستغرب منك ويتعجب ويسخر بل ربما ينفجر غاضباً عليك ويتهمك في عقلك وذاكرتك بأنك مصاب بالزهايمر ولابد ان تتعالج رغم تأكيدك بأنك لم تنتبه للمكان الذي يتحدث عنه وأن الأمر طبيعي ولا يستحق هذا الاستغراب منه!! من خلال ملاحظاتي لاحظت بأن هناك نوع من البشر بصريين أكثر من اللازم وحريصين ومهتمين جداً بكل ماتقع عليه أعينهم وهذا بلد شك يرهقهم من حيث لايشعرون، لأن من ذاكرته أقوى من المعتاد يتعب كثيراً ويتعب من حوله وكل من يتعامل معه لأنه لا ينسى تفاصيل الأماكن وكل حدث وموقف، وبسبب هذه الذاكرة تتأثر علاقاته بالآخرين لأنه قد يذكرهم بجوانب سلبية فيهم قد نسوها أو قد لايريدون استرجاعها وتذكرها، ولذلك فهولاء المدققين هم أكثر الناس تذكراً وتركيزاً على السلبيات أكثر من الإيجابيات بسبب حفظهم وذاكرتهم القوية التي أشغلوها بمعلومات غير مهمة في هذا الحيز الصغير (الدماغ) ونتيجة لذلك قد ينفر الآخرون منهم، وحينما يجتمع في شخص ذاكرة قوية مع صفة الحسد حينها تكون الكارثة! حسب بعض المتخصصين في علم الأعصاب فإن الدماغ ليس مصمم للتذكر وان ما يحدد مانتذكره وننساه يتعلق في المقام الأول بالإنتباه، وكذلك الوسائل المساعدة لمحفزات الدماغ والذاكرة تحدد مانريد تذكره كالتنبيهات والرسائل التذكيرية، ويرى أحد الفلاسفة (هنري برجسون) حين ناقش العلاقة بين الذاكرة والإدراك الحسي أن وظيفة المخ والجهاز العصبي والحواس (استبعادية) تستبعد المعلومات الغير مهمة، وليست للتجميع وإضافة المزيد الذي لايفيدنا وكذلك في حقل (المعرفة) وحتى الأبحاث الحديثة تؤكد بأن كثرة نسيان التفاصيل الصغيرة يعد مؤشراً على الذكاء والعبقرية، ودليل على أنك شخص قابل للتعلم بشكل أسرع، وهذا مالاحظته على أصحاب الذاكرة القوية فوق المعتاد ممن يشغلون أنفسهم بالتفاصيل المملة حيث أنها منعتهم من الإنتاج والإبداع الفكري رغم أن فيهم من يحفظون كذلك الكثير من الأشعار والاقتباسات ويرددون أقوال الفلاسفة والمفكرين، ولكنهم يعجزون عن ان يكون لهم إنتاجهم الخاص بسبب ذاكرتهم، وقد سألت أحدهم بالفعل : لماذا ليس لك إنتاج معرفي وأنت تحفظ الكثير من النصوص فرد قائلاً بما نصه بالعامية: (فاضي أنت، تبيني أفكر وأشغل نفسي.. إلاريح رأسك وعش حياتك)! وبمناسبة الحديث عن العلاقة بين ضعف الذاكرة والإبداع فقد ذكر الأديب الكبير المنفلوطي رحمه اللّه في مقدمة كتابه (النظرات) أنه كثيراً مايُسأل عن جمال أسلوبه وتفرده بعدم تقليد غيره وعن غزارة إنتاجه فيرد: إن مرد ذلك بسبب ضعف ذاكرته حيث أنه يقرأ الكثير من المقروءات ثم مايلبث أن ينساه فلا يبقى في ذاكرته إلا الجميل منه، فضعف ذاكرته وصعوبة حفظه أنقذه من ان ترسخ وتستوطن نصوص الآخرين في ذهنه، ولو كانت كذلك لم يبدع، ولأصبح نسخة مكررة لغيره ومردداً لما يقولون ويكتبون. وبحسب الأطباء فهناك عادات من شأنها ان تُضعف الذاكرة على رأسها قلة النوم وكذلك تجنب النشاط البدنى والأطعمة المصنعة وكثرة التنقل بين المهام، ونقص التحفيز الذهني « من خلال بعض الأنشطة كالقراءة وحل الألغاز وتعلم لغة جديدة أو تعلم الكتابة باليد (عكس اليد التى تكتب بها) «، ومن مسببات ضعف الذاكرة؛ التعود على التوتر المبالغ فيه والإفراط في استخدام التقنية والأجهزة بتطبيقاتها، وكذلك العزلة السلبية، وقلة شرب الماء، وتجاهل المشاكل الصحية، أما حينما يتفاقم الوضع لحد الإصابة بالخرف (الزهايمر) فينصح بلا شك بمراجعة الطبيب ومتابعة الحالة الصحية.