لدي صديق يُحب ديكارت كما يُحب السلفيون البخاري، لمَّا فرغ صديقي من قراءة مقالة (ديكارت يسرق منحوتة القديس) شعر بأنَّ ضغطَه ارتفع، فتناول حبة الأسبرين منعًا لأي جلطة عارضة، ولما هدأ قليلا أرسل رسالة (يُشَرشح) بها المقالة، واصفًا إياها بضعف الدقة (...)
في زاوية من زوايا كنيسة سانتا ماريا عُلِّقَت لوحةٌ لبارمجيانينو تُجسِّد مريم العذراء برقبةٍ طويلةٍ كأنَّها حيْكَت من خيوطٍ لا تُرى، وتُجسّد المسيح وهو طفل كظلٍ مُشَوّه. هذه اللوحة تَظهر للرائي أنَّها انحرافٌ فنيٌ كما هي عادة الفنَّانين في أزمنةٍ (...)
تميل بعض النفوس إلى سؤال الأفضلية، كسؤال: «من أكرم الناس» وربما مالت إلى ذلك لأنَّها ترى الحياة سباقًا، له نقطة انطلاق وخط انتهاء. والعرب يسألون: من أكرم الرجال؟ من أشعر الناس؟ ما أغزل بيت قالته العرب؟ من أشجع الفرسان؟ إلى آخر الأسئلة التي تُشبِّه (...)
دمشق كانت الفتيلة الساخنة للعرب أيام الأمويين، الفتيلة التي خرج منها ثلاثة إشعاعات: إشعاع نحو شمال إفريقيا، ثم الأندلس. وإشعاع نحو خراسان وبلاد ما وراء النهر. وإشعاع نحو الأناضول والقسطنطينية. وجاء معها سؤال: لماذا نجح فتح الأندلس، وتعثر حصار (...)
ماذا لو تناثر ذهب على شوارع مدينة من إثر زلزالٍ أنهى حياة البشر؟ أيكون الذهب -لحظتها- كحصى في برية؟ ربما، فالفضل بن الحباب يقول لنا: «أأنشر البزَّ فيمن ليس يعرفه/أم أنثر الدر للعميان في الغلس»، فقيمة الدر بلا عين تخلق قيمتَه كقيمة النصِ بلا عين (...)
ما الذي يجمع بين بئر ماءٍ في قريةٍ ريفيةٍ أمريكية، ومجلس قضاءٍ في المدينة المنورة في القرن الأول الهجري؟ ربما الجامع نفسه بين عالمة اقتصادٍ تُنقِّب في سلوك المجتمعات الريفية وخليفةٍ إسلامي يقف على حدود النص والاجتهاد، لا يجمعهما إلا مفهوم البُعد (...)
ما الذي يجمع بين بئر ماءٍ في قريةٍ ريفيةٍ أمريكية، ومجلس قضاءٍ في المدينة المنورة في القرن الأول الهجري؟ ربما الجامع نفسه بين عالمة اقتصادٍ تُنقِّب في سلوك المجتمعات الريفية وخليفةٍ إسلامي يقف على حدود النص والاجتهاد، لا يجمعهما إلا مفهوم البُعد (...)
من منا يستطيع دفن الزمن؟ ربما كلنا حين نجعله بلا وظيفة. وهل يخلو زمن من وظيفة ما؟ ربما نعم إذا جردناه من كونه أداة نضبطها، ونُحاسب عليها من شرطة الزمن: الشرطة التي قسمت الزمن إلى حقول وظيفية مدنية: زمن إنتاج، وزمن ضائع، وزمن مستقطع. ومن هذا التقسيم (...)
في مقهى فرنسي ربع واجهته زجاجية كتب محمود درويش: «أنا لغتي»، وهي جملة كأن صاحبها يفتخر، لكنه في الحقيقة يودع الفخر إلى مثواه الأخير؛ فما معنى أن يكون درويش لغته؟
في زمن مضى كانت الكلمات تعرف مكانها؛ فحين يقول جد درويش «شجرة زيتون» فهذا يعني أنها (...)
هنا حكاية من نوعٍ غريب، بطلها الأسماء التي تحمل في رحمها معنيين متضادين، كالجَوْن الذي يُطلق على الأبيض والأسود في آنٍ واحد، وهذه المتضادّات المشتركة لم تكن عابرة في التَّاريخِ، بل أُسيلَت لها الأحبار؛ لأنَّها متعلقةٌ بالأصل، أي حين أطلقنا الجون على (...)
نبي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، والناس يسخرون منه قائلين: «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق». استنكروا ما رأوا لأن في مخيلتهم منافاة بين البشرية والنبوة، إذ كيف لنبي أن تكون له حياة عادية؟ وكأنهم يقولون لا يمكن أن يخرج العظيم من برواز (...)
يقال بأن ديكارت شكَّ شكًّا مطلقا حتى وصل إلى شيء كلما شك فيه رسخ أكثر وهو (ذاته)، لأنه لا يعرف إلا أنه يشكَ، وكلما شك يتأكد من وجوده، على عكس العالم الخارجي كلما شك فيه لا يتأكد وجوده، فقال: «أنا أشك إذن أنا موجود» المقولة التي تحولت إلى «أنا أفكر»، (...)
في بداية حياته الكتابيّة، وقَّع تشيخوف باسم «رجل بلا طُحال»، والطحالُ عضو في الجسد كأنَّه مصنع جنودٍ لمحاربةِ غزو الأعداء. إنّه مصنع مناعة، إذا فقده الجسد فينتظر الموت على يد أتفه سبب. وأول المعاني التي تَدرج لرجلٍ بلا طحال أنه بلا مناعة، وكاتب بلا (...)
يُقال كان النَّجديون يُثنون على المَرأةِ التي لا تُحدِّث الرجالَ الأجانب، وكُلّما كانت طَرمَاء أمامهم فهو أفضل، ويلفتُ النَّظرَ إلى أنَّ صفةَ الخرس هذه سُمِّيَ بها بناءٌ مُصَغَّر، له قاعدة بفتحاتٍ صغيرة، يُوضَع أعلى بابِ البيتِ النجدي القديم، (...)
قال بعضُ الغاضبين إنَّ زنادقة الإسلام ثلاثة، اثنان واضحان هما «المعريّ وابن الراوندي»، والثالث غير واضح، وهو «أبو حيَّان التوحيدي»، لأنَّه «مَجْمَج» ولم يُصرّح. والذي يُمجمِج كأنَّه يتمضمض وهو يتحدث، فلا يُدرى ما يقول، لكنَّ الجميع يعرف أنَّ (...)
يتردَّد في المجالس المخمليّة صدى مقولةٍ ظهرت في عهد النهضة: «لا تكتب حتى تقرأ»، ويُريدون بها أنَّ إمكانيةَ الكتابةِ متوقفةٌ على وجود القراءة. وأذكر -أيام الدراسات العليا عند أكاديميّ يلبس ثوبًا بنقوشٍ نهضويّة- أنَّ هذه المقولة تتردّد كثيرًا بلا سببٍ (...)
يُنسب لعامر بن شراحيل الشعبي، أنه قال «ظَهْر الأرضِ للأحياء وبطنُها للأموات»، بقسمةٍ تجعل للأرض وجهًا آخر يُوازي الوجه الذي نعرفه، فليس للأموات مكان آخر غير الأرض، ويُزعم أنَّ ثقافةَ العربِ شحيحةٌ في فلسفةِ القبر، لا تتجاوز حدود التأويل البلاغي في (...)
روى التَوحيديُّ في «البَصائر والذخائر» أنَّ الواقديَّ قال: «رأيتُ بالمدينةِ بقَّالًا قد أشعلَ سِراجًا بالنَّهار ووضعه بين يديه، فقلتُ: ما هذا يا هذا؟ قال: أرى الناسَ يبيعون ويشرون حولي ولا يدنو مني أحد، فقلتُ: عسى ليس يراني إنسانٌ، فأسرجت».
هذا (...)
«أرادوا الدخولَ فدخلوا»، هذه جزء من جملة لشابٍ سوري في لقاءٍ ميدانيّ عابر، يسأله المذيع التائه في الزحام عن شعوره بعد انتهاءِ عهد الأسد، منتظرًا تعليقًا معتادًا، لكنَّه أجابَ إجابةً غريبة لا علاقةَ لها بمشاعره. سمعتُ هذا اللقاء الهامشيّ صدفةً وأنا (...)
ثَقافةُ المريدِ والشَّيخِ في أصلها (رابطةٌ) يَسعى بها المريدُ إلى الاتّصال بالشَّيخ، وهذه الرابطةُ تفترض أنَّ الشيخَ غير محتاجٍ إلى المريد، ولكن هل يُمكن لرابطةٍ أن يكون تأثيرها في طرفٍ واحد؟ تفترض هذه المقالة أنَّ الرابطة يَستخدمها الطرفانُ في (...)
يُقال إنَّ التَّحقيقَ هو تَحري الحق في القولِ والعمل، والحقُ له وجوه متعددة وألبسة مختلفة، وقد يأتي عاريًا، والأهم من التحقيق هو المُحَقِّق والمكان الذي يُنظَر منه إلى الحق؛ إذ تتعدد صفاتُ المُحقق بحسب توالد الموضوعات وتقسيم الحياة، فقد يكون المحققُ (...)
هذه مقالة عن توفيق الحكيم وسيد قطب كصديقين يُنظِّر كلُّ منهما في ضوءِ الآخر، والجامع بينهما قلق الفنّ وتأثيره، والحَلُّ لديهما بإغلاقِ فراغاتِ النَّفس؛ كي يُصيبَ الفنُّ أهدافَه، وهذا المشتركُ بينهما هو ذاتُه المختلف. فبعد مقتلِ حسن البنا بثلاثةِ (...)
من عادةِ السهراتِ المفتوحةِ أن تكون جَمَّاعةً لأشخاصٍ قد تلتقي بهم أولَ مرةٍ وآخر مرة في آنٍ واحد، فتنسى ملامحَه وينسى ملامحك، لكن قد يبقى أثر في الذاكرةِ يَدلُّ على هذا الشخص، ففي إحدى السَّهرات قابلتُ رجلًا من أهلِ مكة، صاحبَ مزاجٍ بديع، وذائقةٍ (...)
«لماذا نتنكّر لِمَا يُمتِعنا؟» حضر هذا السؤال وأنا أستمتع بعملٍ درامي سوري خفيف لطيف، أُنتِج هذه السنة، ولم يلتزم بمعايير الجودة في عُرفِ (رجال الجبس)، ورجال الجبس لمن لا يَعرفهم هم الذين حوّلوا فقاعةَ صابونٍ إلى جبسٍ -بفعلِ إرادةٍ كالخرسانة- وسموها (...)
كان الناس يقيسون الحديث عن الحرب العالمية بمسطرةٍ لا تحتاج إلى تأويل، فإذا وقعت قنبلةٌ ألمانية على إحدى المدن، فإنَّ الأقلامَ تُباشِر آلامها بالكتابةِ التي تَفهمها الصحافةُ (سيدة الخبر بلا منازع).
لكن في تلك الأثناء التي كانت القنابلُ الألمانيةُ (...)