من منا يستطيع دفن الزمن؟ ربما كلنا حين نجعله بلا وظيفة. وهل يخلو زمن من وظيفة ما؟ ربما نعم إذا جردناه من كونه أداة نضبطها، ونُحاسب عليها من شرطة الزمن: الشرطة التي قسمت الزمن إلى حقول وظيفية مدنية: زمن إنتاج، وزمن ضائع، وزمن مستقطع. ومن هذا التقسيم لن يكون لديك زمن لدفن الزمن، إلا إذا كسرت الدائرة الوظيفية ودخلت في الدائرة الوجودية؛ كما فعل أحد الفلاسفة حين ترك حلقات البحث في كامبريدج وذهب إلى كوخ على ضفاف مضيق في النرويج، ليستمتع بالصمت والوحدة دون زمن وظيفي. أتذكر هذا الكلام لما أردتُ -ذات يوم- أن أدفن ساعات لا وظيفة لها في عملية الإنتاج اليومي، فذهبتُ لأشرب قهوة في مقهى تُغطي جدرانه رسومات كتب وصور مفكرين وفلاسفة وأدباء، وكان هدفي أن أستمتع بلحظة صمت لا أستفيد منها أبدًا. ثم وأنا جالس بلا عمل أنتظر فنجاني وقعت عيني على دفتر بني اللون قديم الشكل على أحد أرفف المقهى، فأخذني الفضولُ إليه، قلبته لم أجد عليه اسمًا، إنما وجدتُ تاريخًا في زاويته العليا هو «شتاء 2009»، ووجدتُ كثيرًا من صفحاته فارغة، والصفحاتُ المملوءة لم تكن متوالية، بل بينها فجوات من الفراغ. في الصفحة الأولى بعد صفحة التاريخ كُتب سطر بخط سيئ جدًا لكنه مقروء مفاده: «إن كنت تقرأني الآن، فأنا حي». ظننتُ في البداية أن الدفتر لصاحب المقهى، يستعرض به نموذجًا حديثًا لجذب الزبائن، لكن النادل أكد لي أن هذا الدفتر نسيه زبون منذ ثلاثة أيام تقريبًا، ولم يعد لأخذه، وربما، قلتُ في نفسي، تناساه ولم ينسه؛ لأن هذه العبارة مألوفة لدي، كأنها مكتوبة لي، لا أعني نفسي بالذات، بل بالصفة. قلبت باقي الصفحات، فوجدتُها تحوي تأملات قصيرة، وانطباعات عن الحياة، وجمل غير مكتملة، وكلمات مشطوبة، كأن صاحب الدفتر يُجرب كيف يجعل أفكاره تعيش بعده؟ وليس له طريقة إلا نسيانه في مقهى، ليبادله الناسُ الكتابة، وعلامة هذا تلك الصفحات الفارغة، وتلك اللهجة التي يُخاطب بها القارئ مباشرة كمثل: «سيمر عليك يوم تجلس فيه في مقهى لوحدك، وتجد دفترًا يُشبه ما تقرؤه الآن. لا تغلقه، فالكتابة التي تنتظرك فيه تنتظرك منذ سنوات» أغلقتُ الدفتر ببطء المتردد وكأني أعاند صاحب الدفتر، نظرتُ حولي لا أحد سواي في المقهى، فالجميع يعمل ويستغل الزمن الوظيفي. أعدتُ الدفتر إلى مكانه وأكملتُ فنجاني بصمت. في الغد شعرتُ بأن علي دين وجودي أرده لصاحبه؛ لهذا عدتُ إلى المقهى، وطلبتُ فنجان قهوة، ثم اتجهتُ إلى الدفتر وفتحتُ الصفحة الأخيرة وكتبتُ: «أنا أيضًا، أكتبُ لأبقى». التفاتة: ربما قصة الدفتر تُعيد إنتاج زمن مفكك: ألا ترى دفتراً من الماضي يُخاطب قارئًا من الحاضر ليستحثه على الكتابة للمستقبل؟ وربما الدفتر ليس في زمن الكاتب ولا زمن القارئ، بل في خطوات رملية بين الاثنين.