ما الذي يجمع بين بئر ماءٍ في قريةٍ ريفيةٍ أمريكية، ومجلس قضاءٍ في المدينةالمنورة في القرن الأول الهجري؟ ربما الجامع نفسه بين عالمة اقتصادٍ تُنقِّب في سلوك المجتمعات الريفية وخليفةٍ إسلامي يقف على حدود النص والاجتهاد، لا يجمعهما إلا مفهوم البُعد والتباعد، لكن لنستعن بأبي حيان التوحيدي ليُدهشنا بما لديه؛ إذ يروي أنَّ رجلًا شكا إلى عمر بن الخطاب حكمَ زيد بن ثابت عليه، فقال له عمر: «لو كنتُ أنا لقضيتُ لك، ولكني أردّك إلى الرأي، والرأي مشترك». هذا المشترك يردّنا إلى نظرية إلينور أوستروم عالمة الاقتصاد الأمريكية حول إدارة الموارد المشتركة، إذ وهي تُفكّك ثنائيةَ الدولة والسوق، بيّنت أنَّ المجتمعات قادرةٌ على أن تحكم نفسَها بنفسها حين تملك القواعد، وتُراقب نفسَها من الداخل، وتُدير مواردها كمشاع، والرأي المشترك -الذي عناه عمر- كبئر ماءٍ يغرف منه الناسُ حين تنبثق أراؤهم، لا يحق لأحدٍ أن يحتكره، ويحتكر مواردَه، كما أنَّ نظرية إلينور تتعامل مع المورد بوصفه ملكًا جماعيًا، لكنه كبئر عمر الذي وُضِع له دستوره الجماعي، لأنَّ الماء أو الرأي أو التأويل إذا استُخدمت ضمن حدود معقولة تبقى متاحة للجميع، لكن إذا بُولغَ في استخدامها -كاستنزاف الماء أو الهيمنة على التأويل- فإنَّ هذا منذر ببدء الأزمة؛ وربما لهذا تأزم العربُ بعد عمر، حتى انفجروا في وجه عثمان. في الأنظمة المشاعية كما تتخيلها إلينور لا وجود لسلطةٍ مركزية تُراقب الناس، بل يتكفّل مستخدمو المورد بالمراقبةِ والتصحيح، والحمايةُ تأتي من قواعد غير مكتوبة، كأنَّها العُرف الذي يُوّلد الثقةَ بين المتبايعين، والعرف هنا قانونٌ توافقيٌّ ضمني يضبط السلوك، وفي المشترك القضائي عند عمر كان الرأيُ منظومة من المروءةِ والاجتهاد والتقدير، يُدار بالعرف الضمني المشترك، ويُحرس بالعدل الذي يتبناه المتقاضون في وجدانهم، وكأنه صار دستورًا للرقابة الاجتماعية الفقهية. إذن مكمن التوازي العميق بين مجلس عمر ورؤية إلينور الاقتصادية أنهما يستبطنان أنَّ السلطةَ إن لم تُوزّع أفسدت المورد سواءً كان ماءً أو معنى، وكلاهما يُراهن على أنَّ الإنسانَ حين يُمنح الثقةَ يصبح مستعدًا لحمايةِ ما يملكه مع الآخرين، إلا أنَّ حياةَ الاثنين وصورةَ موتهما أثبتا أنَّ هذا الرهان كانَ على كف عفريت. التفاتة: الرأيُّ بيتٌ يفتح أبوابه للقادمين من خارج القبيلة، كأنَه العربيةَ وهي تستضيف المفردات المولَّدة لتحيي بها روحها القديمة، أو كأنَّه ذلك العربي الأندلسي حين صرخ: «ويلٌ لحرَّاس النَّص، ويل لهم، ثم ويل لهم»، لهذا كي لا يتحول اليقين إلى استبداد، قتلوا حراسَ النصوص وتركوا الطيور تُعيد كتابةَ الكتاب على هوامش لا تنتهي، فعدالةُ المعنى تسكن في قلبِ جوقةٍ تقف على خشبةِ المسرح وتُغني نشيد الاختلاف.