منذ أن أطلقت وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة مبادرة «الشريك الأدبي» في أواخر مارس 2021م اعتبر "الشريك الأدبي" من أهم محاور التحول الثقافي في المملكة، ضمن مساعي وزارة الثقافة لجعل الثقافة نمط حياة يومي لا حكرًا على النخب والمختصين. جاءت الفكرة بجرأة جديدة: أن تتحول المقاهي والمساحات العامة إلى محطات ثقافية فاعلة، وأن يصبح لقاء الناس بالأدب أمرًا عاديًا مثل احتسائهم القهوة، في مقاربة إنسانية تجعل الإبداع جزءًا من تفاصيل الحياة، وتنزل بالثقافة من برجها العاجي الذي تحتكره النخبة من المثقفين إلى عامة الشعب. "من الفكرة إلى المبادرة" انبثقت فكرة «الشريك الأدبي» من رؤية ترى أن الثقافة ليست رفاهية ولا ترفًا نخبويًا، بل سلوكًا مجتمعيًا يُمارس في الحارات والمقاهي والنوادي. فبدلًا من أن تظل الفعاليات الأدبية حبيسة الصالونات المغلقة، جاءت المبادرة لتفتح فضاءات الحوار الثقافي على عموم الناس. ووفق ما جاء في موقع الهيئة الرسمي، تتوزع المبادرة على عدة مسارات تشمل: المقاهي، المساحات المشتركة، الأندية الثقافية، ودور النشر، وكلها تهدف إلى ربط الأدب بالحياة اليومية. وقد وضعت الهيئة معايير دقيقة لاختيار الشركاء، تشمل جودة الفعاليات، تهيئة المكان، التفاعل المجتمعي، ومستوى التسويق، بما يضمن حضورًا نوعيًا يليق بالمشهد الثقافي السعودي الجديد. "أهداف ثقافية تتجاوز الترفيه" سعت المبادرة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف النوعية، أبرزها: جعل الأدب والثقافة جزءًا من الحياة اليومية للمجتمع، ودعم الأدباء والكتّاب السعوديين عبر منابر غير تقليدية، وتعزيز حضور الكتاب السعودي محليًا وعالميًا، وتمكين المقاهي من أن تكون فضاءات للحوار والتفاعل الثقافي، وخلق منافسة إيجابية بين الشركاء عبر جوائز سنوية تصل إلى 250 ألف ريال للفائزين في الفئة (أ). "حراك متسارع ونتائج نوعية" منذ انطلاقها، حققت المبادرة نموًا لافتًا في عدد الفعاليات والمواقع المشاركة. ففي نسختها الثانية تجاوز عدد الفعاليات 1,400 فعالية في مختلف مناطق المملكة، بينما وصل عدد المقاهي المشاركة في النسخة الثالثة إلى أكثر من 80 مقهى، واستقبلت الفعاليات أكثر من 101 ألف زائر، بمعدل نمو بلغ نحو 472 % مقارنة بالنسخة الأولى. تنوعت الأنشطة بين أمسيات شعرية، توقيعات كتب، ورش عمل، نقاشات فكرية، جلسات قراءة، وحتى فعاليات موجهة للأطفال واليافعين، ما جعلها مساحة جامعة لمختلف الأجيال والاهتمامات. "مقاهٍ تنبض بالشعر والفكر" تحولت مقاهي المملكة -بفضل هذه المبادرة- إلى منصات تفاعلية نابضة بالحياة.فلم تعد المقاهي مجرد مكان للقاء الاجتماعي، بل أصبحت تحتضن أمسيات أدبية وجلسات نقاش ومحاضرات مفتوحة، في حضور كتاب وفنانين ومفكرين، واعتبر المثقفين أن المبادرة تمثل تحولًا لافتًا في المشهد الثقافي المحلي لما أحدثته من دمج حي بين الأدب والفضاء الاجتماعي. وفي حفل ختام النسخة الثالثة، قدم الشاعر جاسم الصحيح قصيدته «كوني زليخة سيرتي»، غناها الفنان محمد الحربي، في مشهد يجسد روح المبادرة القائمة على تزاوج الشعر بالموسيقى، والإبداع بالحياة اليومية. "من النخبة إلى الناس" أكبر ما يحسب لمبادرة «الشريك الأدبي» أنها أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والثقافة. فهي لم تكتفِ بإحياء الفعاليات، بل غيرت الصورة الذهنية القديمة عن أن الثقافة شأن خاص بالنخبة أو بالمهرجانات الكبرى. لقد أعادت الأدب إلى مكانه الطبيعي: في الشارع، في المقاهي، في اللقاء اليومي العفوي، حيث يتقاطع المبدع مع الجمهور في حوار حيّ ومباشر. "تحديات وآفاق" ورغم النجاحات الكبيرة، ما زالت هناك تحديات قائمة، من بينها: ضمان وصول المبادرة إلى جميع مناطق المملكة، لا سيما البعيدة عن المراكز الحضرية، وضمان جودة المحتوى واستدامة التمويل، وتوسيع فرص المشاركة لتشمل المقاهي الصغيرة في المدن النائية.لكن هيئة الأدب والنشر والترجمة أكدت في خطتها المقبلة أن النسخة الرابعة ستشهد توسعًا جغرافيًا ودعمًا لوجستيًا وماليًا أكبر، مع التركيز على الفعاليات النوعية والبرامج التدريبية.إن مبادرة «الشريك الأدبي» ليست مجرد مشروع ثقافي، بل علامة على التحول الحضاري في السعودية الجديدة. فهي تجسد جوهر رؤية المملكة 2030 في جعل الثقافة رافدًا للتنمية وأسلوب حياة، وتثبت أن الأدب لا يعيش في الأبراج العاجية، بل في ضجيج المدن ودفء المقاهي. إنها تجربة سعودية رائدة تفتح بابًا جديدًا للعلاقة بين الفكر والمجتمع، وتجعل من الأدب شريكًا يوميًا في صناعة الوعي والجمال.