ابن تيمية - رحمه الله - يعد واحدًا من أوائل الذين قدّموا للبشرية نقدًا جادًّا للمنطق الأرسطي، في زمنٍ كان معظم الفلاسفة لا يجرؤون فيه على المساس بقدسية أرسطو، بل إنّ بعضهم، مثل ابن رشد، اعتبره نموذجًا للكمال الإنساني والعقلي. كان أرسطو يرى أنَّ المنطق اليوناني يعصم الذهن من الخطأ، ويقود إلى نتائج يقينية لا مجال للشك فيها. غير أنّ ابن تيمية واجه هذا الادّعاء بصرامةٍ فكريةٍ نادرة، إذ قال إنَّ المنطق لا يعصم من الخطأ ولا يحمي من الزلل، بل قد يزيد الأمر سوءًا في بعض الأحيان. لقد كانت تلك بدايةً متميزة في مشروعه النقدي، إذ زعزع فكرة «اليقين العقلي المطلق»، وهي الخطوة الأولى في طريق كلّ معرفةٍ حقيقيةٍ أو تأسيسٍ علميٍّ جديد. كان أرسطو يشترط في برهانه وجود مقدماتٍ كليةٍ يقينية، بينما ردّ ابن تيمية بأنّ اليقين لا يتأتّى من المقدمات النظرية المجردة، بل من التجربة والاستقراء والملاحظة. ومن هنا قدّم نظريته في المعرفة التي تقوم على الحسّ والاستقراء والوحي، فقرّب الفكر الإنساني خطوةً كبرى نحو المنهج التجريبي الذي سيكون لاحقًا أساس العلوم الحديثة. كما انتقد ابن تيمية تضييق أرسطو للمنطق في مقدمتين فقط، مؤكدًا أنَّ البرهان قد يتكوّن من ثلاث مقدمات أو أربع أو خمس أو أكثر، وهو ما أثبتته لاحقًا الفلسفاتُ الحديثة بمختلف مناهجها. كان اعتراض ابن تيمية أعمق من مجرد نقدٍ منهجي، حيث بيّن أنَّ الكليات التي بنى عليها أرسطو منطقه ليست سوى تصوّراتٍ ذهنيةٍ لا وجود لها في الخارج. مثلاً: لا يوجد في الخارج إنسان، إنما يوجد زيد، خالد، عمرو، أي لا يوجد كليات إنما أعيان جزئية. وبذلك أسقط الأساس الذي يقوم عليه البرهان الأرسطي. فإذا كانت الكليات لا توجد إلا في الأعيان الجزئية، فإنّ البرهان المنطقي لا يقدّم علمًا جديدًا، بل يعيد صياغة ما هو معلوم مسبقًا. مثلاً: كل ذهب معدن، وهذه القطعة ذهب، إذن هذه القطعة معدن. يرى ابن تيمية أن معرفتك بالشيء أنه ذهب تستلزم معرفتك أنه معدن. بالتالي المنطق الأرسطي عندما أعطاك النتيجة أنه معدن، فإنه أخبرك بما هو معلوم لديك سلفًا. وتتجلّى عبقرية ابن تيمية أكثر حين نتأمل تبنّيه للفلسفة الأسمية (Nominalist philosophy)، التي ستصبح فيما بعد أحد الأسس التي قامت عليها النهضة الأوروبية، خصوصًا في فكر الفيلسوف الإنجليزي ويليام الأوكامي. ولا يُستبعَد أن يكون الأوكامي قد تأثّر بابن تيمية، إذ توفي بعده بواحدٍ وعشرين عامًا. سطّر ابن تيمية بجرأةٍ فكريةٍ نادرة معالمَ الفلسفة الأسمية في العالم الإسلامي، وكان بحقٍّ سابقًا لعصره، ومشاركًا أصيلًا في المسيرة الإنسانية نحو تحرير الفكر من قيود اليقين المصطنع. حتى وإنْ كان مسبوقًا في حججه، فإنّ هذا لا يقلل أبدًا من بنائه الفلسفي المتماسك الذي جعله شريكًا رسميًا وفعّالًا في بناء الحضارة الإنسانية الحديثة، ومثالًا فريدًا للفيلسوف الذي جمع بين العقل والوحي، والنقد والإبداع.