تميل بعض النفوس إلى سؤال الأفضلية، كسؤال: «من أكرم الناس» وربما مالت إلى ذلك لأنَّها ترى الحياة سباقًا، له نقطة انطلاق وخط انتهاء. والعرب يسألون: من أكرم الرجال؟ من أشعر الناس؟ ما أغزل بيت قالته العرب؟ من أشجع الفرسان؟ إلى آخر الأسئلة التي تُشبِّه المعاني بالفعل المادي المباشر، إذ يستطيع العربي أن يحدد أول من رمى سهمًا في معركة ذي قار، لكنَّه لا يستطيع أن يُحدّد من أكرم الناس؟ ولكي يتجاوز هذه العقبة أعطى المعاني إطارًا تعريفيًا صارمًا، فعرَّف الكرم ثم حَدَّد مَن الأكرم؟ لكن هل استطاع التعريف أن يتجاوز العقبة؟ في حديثٍ رواه البخاري، أنَّ قومًا سألوا النبي: «من أكرم الناس؟ فقال: أتقاهم، فقالوا له: ليس عن هذا نسألك». أليس لو كان للكرم تعريف صارم، لفُهِم خطاب القوم مباشرة؟ لم ينتهِ الحديث هنا، بل حُوّلت الإجابة من المعنى المطلق إلى الشخص المعين، إذ قال النبي: «أكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، فقالوا له: ليس عن هذا نسألك». لم ينته الحديث هنا، بل تحولت الإجابةُ إلى تفريقِ معنى الإنسان في بُنَى اجتماعية وثقافية، ثم تحديد أيّ البنى أكرم، إذ قال: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». فمعادن العرب تعبير يُحيل إلى الخصائص المتجذرة في بُنَى تتجلّى في السلوك، وهو في الآن نفسه كشف لاستحالة الإجابة على السؤال المُعيّن: من أكرم الناس؟ زرتُ مدينةَ حائل وكان في ذهني إشكالية السؤال: «من أكرم الناس»؟ لأنَّ حائل رمز الكرم في الوجدانِ العربي، ومن أراد أن يصف كريمًا يقول: «كرمه حاتمي»، نسبةً إلى قلبِ حائل ورمزها الأكبر حاتم الطائي، و كنتُ أيضًا مستحضرًا أنَّ الناسَ بفهمهم التلقائي يعرفون الكرمَ بأنَّه نقيضُ البخل، وهذا ما جعل سؤال الأكرم متنازعًا عليه حيث تحديد درجات الكرم متعسرة، ففي كل القبائل والديار كرماء. فيأتي السؤال: كيف يُثبت الحائليون أنهم أكرم العرب، ما دام الكرم لا يُقاس؟ سأورد حكايتين أزعم أنَّهما تُجيبان عن سؤال المقالة، الأولى: استضافني صديقٌ عزيز في حائل لمدة يومين، كان فيها مثالًا للمعاني العظيمة التي سكنت وجدان العربي، وحصل أن ذهب بنا إلى مخيمٍ بين جبال حائل الساحرة؛ ليُكمل الكرمَ بكرم، ثم ونحن نتسامر لاحظتُ أنَّ صديقي غابَ عن الأنظار ليجلب حاجةً من المدينة، فلمَّا عاد بعد ما يُقارب نصف ساعة، قلتُ له ممازحًا: أين اختفيت؟ أو قلتُ أين غبت؟ فنظر إليَّ بعتب الكريم وقال: «حنّا ما نغيب». هنا أخذتني دهشةٌ مختلفة؛ لأنَّ جوابَه في ذروة حضور الكرم المباشر، فحين أسأله «أين غبت» وهو في حضرة إكرامنا، فيعني أني أفترض أنَّ حضوره محدود بجسده، مرهون بموقعه، لكنَّ اللغةَ الحائلية في هذه الجملة قالت: «نحن موجودون حتى عندما لا نُرى»؛ وكأنَّ الكرم في أقصى تمظهراته حضور لا يُقاس بالزمان والمكان. أمَّا الحكاية الأخرى فيرويها أحدُ المعارف يقول: كنتُ في مجلسٍ حائلي، وحصل أن سقطت جمرةُ البخور على السجادة، فقال أحد الحاضرين لمن يصب القهوة: «طَفَّها بسرعة» خوفًا على احتراق السجادة، ولكنَّ الرجلَ الحائلي استنكر لغةَ الضيف فقال: «حنّا ما نطفّيها»، ثم انحنى بهدوء ليحمل الجمرةَ ويضعها في المنقد، فأيّ نارٍ هذه التي لا تُطفأ؟ وأي كريم هذا الذي لا يخشى احتراق السجادة، بقدر خوفه من انطفاء رمز الكرم ذاته؟ ربما كانت الجمرة أثرًا مرئيًا لذاكرة الكرم، وكان استخدام لفظ «طفّها» يعني طمس ما هو أعمق من النار، طمس الحضور الذي لا يُرى. لهذا وأنا عائد من حائل، قلت إنَّ كل من يسأل «من أكرم العرب»؟ يفترض مسبقًا أنَّ الكرم شيء يمكن ترتيبه، وقياسه، وأن الفعل العظيم يمكن أن يصبح رقمًا في مسابقات الشرف، لكنَّ الحائلي لا يُجيب عن هذا السؤال لأنه لا يعترف بشرعيته، بل يُغيّر من مساره إلى جملة مدهشة: «حنَّا ما نغيب»، ليُحرّر الكرم من عقال ثنائية كرم وبخل، ويجعله متجسدًا دون وسيط. التفاتة: ربما ليس الكرم إلا أثرًا يعبر صامتًا بيننا، لا يراه إلا الحاضرون في ذروةِ الغياب.