في عام 1879، قدّم أبسن مسرحيته الشهيرة «بيت الدمية»، التي انتهت بلحظةٍ مهمة: نورا تُغلق وراءها الباب وتُغادر أسرتها. كان ذلك المشهد انفجارًا أخلاقيًا وجماليًا؛ إذ بدا لكثيرين فعلًا أنانيًا لا يُغتفر، فيما رآه آخرون خطوةً نحو إعادة تعريف الذات، إلا أنَّ الرؤيتين تنفذان إلى معنى واحد وهو الرعاية؛ لأنه إذا كانت نورا ضحَّت بصمتٍ من أجل رعاية أسرتها، فإنَّها قررت في المشهد الأخير رعايةَ ذاتها والتضحية من أجلها. استعادت ذاكرتي هذه المسرحية القديمة وأنا أفكِّر بسؤالٍ وُجِّه إليَّ - فجأةً - أثناء جلسة ثقافية: «إلى أين يتّجه الملصق السينمائي في عصر المنّصات والخوارزميات؟» فالمنصة قد تعرض ملصقين لفيلم واحد، الأول رومانسي يراه زيد، والثاني حربي يراه صديقه عمرو، كلٌّ بحسب ما التقطته الخوارزمية من أهوائه. التفتُّ إلى السائل فجأة أيضا وقابلتُ السؤال بسؤال: «ما الذي يُمكن أن تقوله لنا مسرحيةُ بيت الدمية عن الملصقات السينمائية؟» تعجّبَ مني وابتسم لغرابة السؤال، فبادرته قائلًا: على نحوٍ متوازٍ مع حكاية نورا في المسرحية وُلد الملصق السينمائي في بدايات القرن العشرين بوصفه ظلًّا للفيلم، تابعًا له، لا وجودَ له إلا ليخدمه: صورة ثابتة، وعنوان كبير، وبعض المعلومات التقنية، كأنَّه واجهةٌ صامتة تُذكِّر الناس بموعدِ العرض، ومع مرور الوقت خطا الملصقُ خطواته المهمة للتَّحرر من وظيفته الدعائية الصرفة، فغدا عملًا فنيًا بحد ذاته، ألا يُذكّرنا هذا بنورا في آخر المسرحية؟ لكن السؤال أين ذهبت نورا بعد أن صفقت باب عائلتها وغادرت؟ قال لي مبتسمًا: لا أحد يعلم إلا المؤلف. فقلتُ بابتسامةٍ أوسع من ابتسامته: أظنُّها ذهبت برحلة كرحلةِ الملصق السينمائي، ففي المدرسة السوفيتية تحوّل الملصقُ إلى خطاب سياسي، كما تحولت نورا إلى جزء من الخطاب السياسي، وفي المدرسة البولندية صار لغة رمزية تُؤول الفيلم بدل أن تُعرّف به، كما أصبحت نورا تُؤول حياةَ العائلة لا أن تُعرّف بها، وقد تجد نورا تُشارك في حوارات فكرية لفهم جوهر مشكلة العائلة؛ كأنَّها ملصقات سول باس حين صارت تجريدًا بصريًا يختزل جوهر الفيلم في صورةٍ واحدة. إذن كما خرجت نورا من عباءة العائلة لتُعلن استقلالها، خرج الملصق من عباءة الفيلم ليعلن ذاته، واللافت للنظر أنَّ قارئي المسرحية عبر قرن ونصف لم يتذكّروا إلا نورا من تاريخ العائلة المسرحية، وهذا يُشبه أن بعض الأفلام تلاشت من الذاكرةِ بينما بقيت ملصقاتها أيقونات حية، وكأن الملصق - في مساره التاريخي - صفقَ هو الآخر البابَ خلف المفهوم الدعائي الضيق؛ ليتحوّل إلى حضور مستقلّ يُشارك في الصناعة السينمائية. إلا أنَّ استقلاليةَ الملصق ظلّت تدور في فلك الفيلم نفسه، كما ظلت نورا تدور في فلك العائلة نفسها؛ إذ مهما استقل الفرع فإنه سيظل تابعا ما دام لا وجود له - كلفظ ومعنى - إلا بوجود الأصل، وهي كل مراحل الملصق التحررية، حتى جاءت مرحلة التفكيك البصري من خلال الخوارزميات التي وعدت باستقلال كامل للملصق، بمعنى أن الملصق يتشكّل بعدد النَّاظرين إليه، ويُوجّههم إلى زاوية معينة لمتابعة ما يريدون أن يتابعوه، حتى إن الملصقَ ذاته صار نصًا احتماليًا حقيقيًا: كل مشاهد يرى فيه فيلمًا مختلفًا، لأن الملصق يُقدّم قابليّة الاحتمال من خلال كل عينٍ تنظر إليه، أي كأننا أمام احتمالٍ جديد لأحداث الفيلم يضعه كلُّ مشاهد للملصق على حدة. التفاتة: ماذا عن الملصق السينمائي السعودي؟ هل يُمكن أن يُوظف مرحلةَ التفكيك البصري ليستعيد الطبقات الجيولوجية للثقافة الجزيرية، حيث كل لون يُشير إلى قاعٍ من التجربة الإنسانية العميقة؟ هذا السؤال الأخير استلهمته وأنا أستمع لشابين بجواري في السينما يتناقشان بعفوية عميقة عن الفيلم السعودي القيد.