يتصدر فيلم"تينجا"لحسن لكزولي إهداء قد يبدو غريباً، وهو موجه للكاتب المغربي الراحل محمد شكري. والحق أن هناك علاقة. فالعنوان يحيل على أسطورة تسمية مدينة طنجة كما حكاها الكاتب. فبعد الطوفان المعروف استقرت سفينة نوح عليه السلام بالقرب من سواحل المدينة وما دل على ذلك هو قدوم حمامة تحمل غصناً مضمخاً بالطين فصاح النبي في ركاب السفينة طين جا، أي جاء! لهذه الإحالة بعض توافقات في الشريط لكن في البداية فقط. فالفيلم يسرد قصة تنفيذ لوصية أب. هذا الأخير طلب من ابنه أن يدفنه ببلدته الصغيرة في عمق جبال الأطلس. في الأمر رفض لغربة الموت في أوروبا التي عاش فيها غربة الحياة الأولى. هذا على المستوى الفردي لكن في العمق تتجلى رغبة أكبر وهي تمكين الابن من اكتشاف البلد الأصلي. وتلكم ذريعة الأب والمخرج معاً. الشيء الذي أعطى فيلماً يحقق شرطه السينمائي يتخير نوع"الرود موفي"فيلم الطريق وشرطه الموضوعاتي بتخير موضوع راهن يهم علاقة المغتربين العرب بثقافتهم الأصلية وهي علاقة متسمة بالجهل والقسوة. ما يثير أكثر هو السيارة الهادئة والصندوق الهادئ أيضاً حيث ترقد الجثة بلا حراك مطمئنة والسائق غير الهادئ تماماً والذي أجبرته وصية لا يفقه في معناها شيئاً على مغادرة أوروبا أي الحياة من أجل دفن ميت. هو الذي تلقى في أوروبا أن الموت نهاية يجب التخلص منها لمواصلة العيش الدؤوب. لكن ها هو يدخن ويسوق ويتجه جنوباً لا عزاء له سوى التدخين والتأمل الملول. لكن الصورة تتغير فجأة حالما يطأ أرض المغرب في مدينة طنجة تحديداً. يحدث اكتشاف الحيوية والحركة البشرية المتسمة بالهرج الكبير والانفعال والحرارة والتي تكثف منها شمس المغرب وأفريقيا. كل شيء ليس كما عهده. في نقطة الجمارك حيث عليه الرضوخ لسلوكات أخرى وإدارة متباطئة، ثم وهو يجلس ليستريح بمقهى على الناصية وحيث يحدث الاكتشاف الأول. يتعرف الى شخص اسمه ميمون مستعار من شكري أيضاً مجنون مشرد شوارع مطارد من طرف صاحب المقهى والذي لا يفتأ يحلم بصوت مرتفع بالهجرة إلى أستراليا حيث السائحة التي وعدته ذات يوم . لماذا الجنون؟ ولماذا الهجرة؟ لا يهم الجواب فالأمر يبدو كما لو كان دخولاً إلى عالم أدبي أكثر منه الى عالم واقعي. السينمائي أحياناً تغلب عليه مخيلته. وبالفعل سيكون الشريط سلسلة من اللقاءات سواء مع الجغرافية أو مع الأشخاص وبالتالي سرد لانعكاساتها على نفسية البطل وعلاقته مع أبيه. في شبه صمت. العاطفة هي المحتوى الأساس. والبلد ليس بالتالي سوى مسرح تعاقب أمكنة وحالات تستثير هذه العاطفة. حوار الذاكرة والواقع يكتشف البطل نور الدين واقعاً آخر مخالفاً، لكنه متنوع وقوي ومثير لا تسير فيه الأمور كما عرفها، إذ تنتفي العقلانية والمنطق الفرنسي في التعامل والسلوك. يغضب ويندهش ويتعجب وفي الأخير يلتفت إلى الصندوق مراراً ليحادث الميت فيه مؤنباً أحياناً ومسائلاً أحياناً أخرى. طول الطريق وهو يقارن ويسائل. هذا المغرب الذي يتبدى له مملوءاً بالضياء والحركة وأيضاً بعلامات لا حديثة يزلزل قناعاته ويعيده إلى أبيه ويحاول أو يجد أجوبة لما يعتمل فيه. لكن الوالد ميت. فيظل السؤال: أأنا من هنا؟ أوَالدي مغربي؟ ما معنى أن تكون مغربياً؟ بالنسبة إليه هو الفرنسي النشأة والحياة، هو الذي لم يحاور قط أباه ولم يعرفه لما كان حياً على غرار جيل بكامله منقطع عن جذوره البعيدة ثقافياً وحضارياً. وهنا المخرج سيقوم بخرق سينمائي وهو إحياء الميت سينمائياً. يرى البطل والده للمرة الأولى وسيحادثه كما لم يفعل من قبل. الشيء الذي يحرك الساكن الدفين وقد يكاد يحرك في الوقت نفسه النوستالجيا المستحيلة لولا الواقع اللامريح الذي يظهر طوال الرحلة. وهذا الواقع يلخصه لقاء نور الدين بنورا في الطريق إلى الدار البيضاء. الفتاة المتعلمة ذات الشهادات والعاطلة والتي تتدبر حياتها بارتهان جسدها لرجال يلبون حاجاتها المعيشية. صورة لواقع البطالة والفقر والهامش وقسوة العيش كما يظهر من الأسواق الشعبية والسحنات. تقبل نورا مرافقته في الرحلة بعد أن قررت أن تتحرر من أسار شهوة الرجال، الأمر الذي يجعل بطلنا يكتشف البلد من خلال عينيها ومعاناتها. فمن قبل كان وجهاً لوجه أمام الجغرافيا والموت. وهكذا يسير الشريط. جزء منه يتجه نحو الباطن الذي يوقظ الذاكرة ويحاول أن يملأ ثقوبها، وجزء يتجه نحو الخارج الذي يعكس واقعاً ليس كله مريحاً. ولقد حاول إظهار العلاقة بينهما وتتأكد أكثر في المرحلة الأخيرة عندما يمتزج الجزآن في عمق جبال الأطلس. هناك حيث النسوة الأمازيغيات يحفظن الذاكرة الثقافية في الوشم والملابس والمسكن واللغة والكل موسوم بالأصالة العتيقة، وحيث جغرافيا الأعالي والمنعرجات تلوح للبطل كمكامن للسر، السر العميق الذي جعل والده يوصيه بدفنه فيها. يكتشف أن الوطن هو وطن الأصول وليس وطن الإقامة. واللقطات التي تبين الأمر يوجزها مشهد الإنصات للغناء الأمازيغي في السيارة والذي تقوم نورا بشرح كلماتها، وبقائه في عالم القرية الممسوح والمثير في الوقت نفسه، مما جعل نور الدين يتواصل مع ذاته. مشهد الدفن وطقوسه فيما بعد ليس سوى لقطة غرائبية ترضي العين الغربية فقط.