رغم ما حققته البشرية من تقدم علمي وتقني مذهل، لا يزال الإنسان يطارد سرّ السعادة الحقيقية التي تمنحه الطمأنينة والسلام الداخلي. فالسعادة والرفاه ليست مجرد زيادة في ناقل واحد، بل نتيجة توازن ديناميكي بين أنظمة عصبية متعددة متأثرة بعوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية.. ماذا لو طبقناها في غزة المحرومة (تعرض متكرر للتوتر/الصدمة -الحرمان المعيشي والاعتلال الصحي - الانقطاع الاجتماعي وفقدان الموارد - تدمير البنية التحتية للرعاية النفسية)، فمع تطور علم الأعصاب، اكتشف العلماء أن السعادة ليست مجرد شعور عابر أو حالة نفسية مؤقتة، بل هي نتيجة لتوازن دقيق في كيمياء الدماغ، تتحكم به مجموعة من المواد الكيميائية تتناغم مع مؤثرات أخرى في الجسم وتُعرف ب هرمونات السعادة. حيث إن السعادة نسبية تختلف من شخص لآخر ولا تتحقق فقط بالسعي وراء امتلاك أشياء جديدة يُحبها الشخص، بل إن قسطاً كبيراً من السعادة يُمكن تحقيقه إذا ما أحب ورضي واقتنع الإنسان بالأشياء التي يمتلكها بالفعل، وبالتالي، يتنفس الإنسان، ويزداد نشاط الجسم في إنتاج الطاقة، مما يؤدي إلى وظائفه الحيوية ويعزز تزايده العام بالعام، حيثُ وجد الباحثون أن الأشخاص الراضين بما يمتلكونه بالفعل، هم أكثر سعادة من الأشخاص غير الراضين بما يمتلكون. وخلال الصراعات الأخيرة أظهرت الدراسات ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الاكتئاب، القلق، والPTSD بين الأطفال والبالغين، كما أبلغت وكالات الإغاثة عن نقص حاد في خدمات MHPSS، وهي صورة تتوافق مع أنماط اختلال التوازن الكيميائي والسلوك العصبي التي تنتج عن التعرض المزمن للضغط والصدمات. علمياً ليست السعادة مصادفة، بل حالة بيولوجية يمكن تعزيزها من خلال نمط الحياة. فالدماغ يفرز مجموعة من الهرمونات التي تتحكم في المزاج والمشاعر، أبرزها: السيروتونين، الإندورفين، الدوبامين، والأوكسيتوسين، وهي التي تشكّل معًا «مفتاح الشعور بالسعادة والرضا». ومن رباعية الهرمونات التي تصنع السعادة (سنوا-ين) السيروتونين: «مضاد الاكتئاب الطبيعي»، يمنح الشعور بالراحة والرضا، ويزداد إفرازه بممارسة الرياضة والتعرض لأشعة الشمس. الإندورفين: «مسكن الآلام الطبيعي»، يساعد على مقاومة التوتر، ويتحفز بالضحك والتمارين الرياضية. الدوبامين: هرمون «التحفيز والإنجاز»، يمنح الإحساس بالنجاح عند تحقيق الأهداف أو تلقي التقدير. الأوكسيتوسين: «هرمون الحب»، يُفرز أثناء العلاقات الاجتماعية الداعمة ويقوّي الترابط الإنساني. إنها أيها القارئ السعادة ذلك المفتاح الصحي لعالم النفس والجسد، فليست رفاهية عاطفية، بل ركيزة أساسية لصحة الإنسان النفسية والجسدية، لترى الأشخاص السعداء يتمتعون بمناعة أقوى، ونسبة إصابتهم بالأمراض المزمنة أقل، كما يعيشون عمرًا أطول. وهنا أكدت منظمة الصحة العالمية أن الصحة هي حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية، مما يجعل السعادة جزءًا لا يتجزأ من الصحة الحقيقية.. والسؤال الآن: كيف نعزز هرمونات السعادة؟.. يمكن للإنسان أن يصنع سعادته بطرق بسيطة: تبدأ بتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، لبناء علاقات اجتماعية إيجابية قائمة على الثقة تحقق الأهداف الواقعية والاعتزاز بالإنجاز، وقضاء الوقت في الهوايات المحببة والأنشطة الممتعة، وتناول أطعمة كالموز، الأناناس، الشوكولاتة، والأسماك، وأهمها ممارسة الرياضة بانتظام.. لتتولد لعبة الفرح، وفهم وظائفها، لتدخل في مصنع سحري، ينتج مواد كيماوية ترفع من معنوياتك وتضفي البهجة على أيامك. هذه «الهرمونات السعيدة» هي عناصر رئيسية يمكن أن تساعدنا على عيش حياة أسعد. ... بينما الوجه الآخر لانخفاض السعادة هو، «الاكتئاب»، وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 280 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب، وهو أحد أبرز أسباب العجز عالميًا، وتتمثل أعراضه في الحزن المستمر، فقدان المتعة، اضطرابات النوم، ضعف التركيز، والشعور باليأس.. لذا فإن تعزيز السعادة يمثل خط الدفاع الأول ضد هذا المرض الصامت. إن الإنسان المتوازن نفسيًا لا يخلو من المشاعر السلبية، لكنه قادر على التعايش معها بوعي.. ومن أبرز علامات الصحة النفسية: الاستمتاع بالأشياء البسيطة، والتكيّف مع ضغوط الحياة واحترام الذات والآخرين والتوازن بين العمل والراحة والقدرة على الحب والعطاء. ختامًا: يحتاج الرفاه الإنساني في زمن الصراع إلى أكثر من طعام ودواء، إلى استعادة التوازن الداخلي الذي يسمح للدماغ بإعادة إنتاج المعنى والأمل. دعم الصحة النفسية هو استثمار في القدرة على الصمود والتعافي للمجتمع ككل، فالسعادة ليست هدفًا بعيدًا، بل أسلوب حياة نغذيه بالرضا، والامتنان، والعلاقات الصادقة، لفهم وتعظيم إنتاج جسمك لهذه الهرمونات السعيدة يحسن بشكل ملحوظ صحتك النفسية، فكلما ازداد وعي الإنسان بأهمية التوازن النفسي والكيميائي في جسده، اقترب أكثر من الرفاه الحقيقي.. وقد قال تعالى: «وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها...» (هود: 108).