الإنسان ليس كائنًا بقدر ما هو مشروع تجريبي طويل، نسخة تختبر ذاتها كل يوم في معمل الزمن، يتغير كما تتغير الشاشات، يُحدث مزاجه، ويُعيد تشغيل مشاعره كل صباح، يحمل داخله نظام تشغيل مزدوج.. منطقًا يزن الأشياء بدقة، ووجدانًا يبعثر الموازين بلا إذن من العقل. إنه كائن يعيش بين أمرين متناقضين، أن يعرف كل شيء، أو أن يجهل سبب معرفته.. وحين اخترع الآلة لم يكن يريد بديلا، بل مرآة يرى فيها نسخته الباردة، لكن المرآة كَبرت، وتعلمت كيف تحل محله، فصارت تفكر قبله، وتقرر عنه، وتعرف مواعيد حزنه كما تعرف درجات حرارته. فلم يعد مركز الكون، بل نقطة في قاعدة بيانات ضخمة، تعرّفه الأرقام أكثر مما تعرفه التجارب.. ومع ذلك يظل شيء فيه لا يصنف نبضة ترفض القياس، ولحظة حنينٍ لا تضغط إلى ملف، وذلك الجزء الغامض الذي يسميه البعض «الروح»، ويسميه المنطقيون «الاستثناء الذي لا يُشبه القاعدة»، ففي كل مرة يحاول فيها أن يفهم نفسه، يُنتج نسخة جديدة من السؤال.. يتقدم تقنيًا، ويتأخر عاطفيًا، يبرمج العالم بإتقان، ويترك مشاعره تعمل بنظام تجريبي غير مستقر، فالآلة لا تخطئ لأنها لا تشعر، والإنسان لا يبدع إلا حين يخطئ. هي تكتبُ الكمال، وهو يكتب ما يشبهه من النقص الجميل، الذي يجعل من كل خلل نوعًا من الحياة.. إنه آخر الكائنات التي ما زالت تحلم، وربما حين تنطفئ الأحلام ستعلن الخوارزميات نهاية التجربة.. وفي النهاية يبقى الإنسان الخلل الأجمل في هندسة الكون، والسرَّ الذي لم يفك شفرته أحد.