ما الذي يجعل موظفًا يعمل في شركة لسنوات طويلة، لكنه لا يهتم لنجاحها أو تعثّرها بقدر اهتمامه بوصول مرتّبه في موعده؟ وما الذي يجعل بعض الزوجات غير مباليات بأسرة الزوج الكبيرة، بقدر حرصهن على استقرار بيوتهن وعلاقتهن بزوجهن؟ وما الذي يجعل عائلة تجمعها رابطة الدم... لكنها عاجزة عن أن تكون سندًا لأبنائها في لحظات الشدة؟ تبدو هذه الحالات مختلفة في ظاهرها، لكنها تشترك في عامل واحد يفسّرها بوضوح: غياب الانتماء. فالإنسان عندما لا يشعر بانتمائه للمكان أو للناس من حوله، فإنه يتعامل معهم بقدر الحاجة... لا أكثر. والانتماء ليس شعورًا يُفرض أو يُطالَب به، بل هو خليط من الاحتواء، والعدل، والاحترام، والإحساس بالأمان. نولد بانتماء غريزي لوالدينا وعشيرتنا ووطننا، لكن الانتماء الذي يتعلّق بالعلاقات والعمل هو انتماء يُصنع؛ يعكس ما نتلقاه من معاملة ويجسّد ما نشعر به من قيمة داخل ذلك المحيط. فالموظف الذي يواجه ضغوطًا يومية من رؤسائه، ويُهمَّش، ويُنتقد بلا تقدير، سيكره مكان عمله، ويخرج كل يوم وهو يحمل شعورًا بالخصومة تجاه كل ما فيه. كيف نطالبه بولاءٍ لم يحصل على أدنى مقوّماته؟ وفي العلاقات الزوجية، يتكرر المشهد ذاته: فالزوج الذي يبذل جهده في عمله أو حياته، ثم يعود فلا يجد من زوجته دعماً أو تقديراً لإنجازاته، يفقد تدريجيًا رغبته في مشاركتها أفراحه أو طموحاته. يصبح حاضرًا في البيت، لكن بلا روح، لأن الانتماء العاطفي تراجع داخله. وكذلك الزوجة التي لا تجد من زوجها تشجيعًا ولا امتلاءً عاطفيًا، ستنشغل بنفسها وتنكمش داخل صمتها، ولن تبالي بصعوده أو تعثره، لأنها ببساطة لم تشعر يومًا بأنها جزء من رحلته. العلاقة التي لا تُبنى على التقدير تصنع مسافة صامتة... ومسافة بلا انتماء. وأفراد العائلة الذين لم يجدوا احتواءً ولا عدلًا منذ الصغر، يكبرون متباعدين؛ يحمل كل واحد منهم ذاكرة جفاف عاطفي وغياب سند. وحين تتكرر الخيبات داخل البيت نفسه، يصبح الدم رابطًا بيولوجيًا... لا وجدانيًا. الانتماء -بشكليه الفطري والمكتسب- ليس تفصيلًا ثانويًا في حياة الإنسان، بل هو ما يمنحه شعورًا بأن هناك مكانًا يخصّه، وأشخاصًا يُحسب بينهم، وقلوبًا تستقبل حضوره بامتنان. إنه إحساس لا يولد من الكلمات، بل من الفعل. ولا يأتي بتحصيل حاصل، بل يُبنى لبنة بعد أخرى. وكل علاقة، وكل مؤسسة، وكل عائلة... لا تصنع لأفرادها هذا الشعور، ستجد نفسها عاجزةً عن خلق الولاء، أو المحبة، أو الرغبة في الوقوف وقت الشدّة. فالانتماء... حين يغيب، يغيب معه كل شيء.