ارتبطت السينما في لحظةِ ولادتها بالواقعية الحياديّة، إذ بدت الكاميرا -مع الأخوين لوميير- عينًا صامتة لا تتدخّل، تُسجّل خروجَ العمّال من المصنع أو وصول القطار إلى المحطة، إلا أنَّ هذه الحيادية الظاهرة ليست حيادية صفريّة، فلا وجود لحيادٍ صفري مطلق. ويُمكِن لي أن أُدَلِّلَ على هذا بمفهومِ الفَراغ التَّام في الفيزياء؛ ففي أواخر القرنِ التاسع عشر حين ظهر فيلم الأخوين لوميير الأول كانت الفيزياء الكلاسيكيّة تفترض أنَّ الفراغَ مجردُ مكان خالٍ من المادة والطاقة، لكن مع تقدم الفيزياء في القرن العشرين تغيّرت الصورة؛ صار الفراغ يُعرَّف بأنَّه حقل ديناميكي مليء باضطرابات عشوائية ودائمة من الطاقة. والسؤال: كيف يكون فراغًا وهو مملوء؟ هذا يُشبه سؤالنا عن السينما: كيف تكون حيادية وهي ليست حيادية؟ وجواب ذلك أظنه يُلتَمس من خلال مبدأ عدم التحديد لهايزنبرغ في الفيزياء؛ لأنَّ الزمن والطاقة متلازمان، أي لا يُمكننا أن نجعل الطاقة صفرًا وفي اللحظة نفسها نجعل الزمن ساكنا. فتخيّل أن زيدًا من الناس أراد إلغاء هذا التلازم فحاول أن ينزع كل طاقة من الفراغ ليجعله صفرًا تامًا، فإذا به يكتشف أنَّ المطلوب منه أن يُوقف الزمن عن الحركة أيضًا، وتجميد الزمن مستحيل. والنتيجة أنَّ الفراغَ ليس فراغًا تامًا، بل هو مليء باضطرابٍ غير ملحوظ. وهذا ما يجعلني أقول: إنَّ الحياد أيضًا يحمل اهتزازا خفيًا يجعله (لا حياد) حتى وإن لم نشعر بذلك. بهذا المعنى فإنَّ ما فعله فيلم لوميير لم يكن حيادًا تامًا، إنما اقتطع الزمن من مجراه، واختار زاوية وبداية ونهاية؛ خوفًا من أن تموت اللحظة وتُدفن في ذاكرةِ من عاشوها. لقد أراد أن يُثبّتها ضد موتها، ولكنَّ السؤال الفلسفي يظل حاضرًا: هل تموت اللحظة فعلا، أم أنها جزء من زمن لا يتجمد أبدًا؟ الفيزياء تُعطينا صورة موازية: في أزمنة قصيرة جدًا يُمكن أن يظهر زوج من الجسيمات (إليكترون وبوزيترون مثلا) من لا شيء، يتحركان قليلا ثم يتفانيان ويعودان إلى العدم. وهذا لا ينتهك قوانين الطاقة؛ لأنَّ الطاقةَ تُعطَى وتُسترد بسرعة. كذلك فعل فيلم لوميير في مطلع السينما: أظهر حيادًا يبدو مطلقا، وهو في الحقيقة حياد يَلِد (لا حيادًا)، كما يلد الفراغ جسيمات عابرة. والسؤال: ماذا يعني أن يمتلك الفراغ طاقة؟ وأن يمتلك اللا حياد طاقةً حيادية؟ ربما يعني ذلك أنَّ الوجود لا يحتاج إلى مادة أولى ليبدأ، وأنَّ اللا حياد لا يحتاج إلى برهان صفري كي ينشأ. والأجمل أن هذه اللا صفرية هي ما يحفظ لنا استقرار العالم ذاته؛ فلو تمكنّا من نزع كل طاقة من الإلكترون لسقط في النواة وانهارت الذرة إلى نقطة، إلا أنَّ طاقتَه الدنيا -طاقة الأرض غير الصفرية- تُبقيه في حالة تذبذب دائم تمنع الانهيار. وبهذا يظلُّ الكون قائمًا، والمادة مستقرة، ونحن موجودون. وهذا ما يجعلني أقول: إنَّ الحياد الناقص الذي بدأ مع الأخوين لوميير هو ما يحفظ للسينما حياتها؛ إذ لو كانت حيادية صفرية لماتت فورًا في تكرارها، لكن لأنَّها تهتز دومًا بين الحياد واللا حياد فإنها تُولّد أشكالا جديدة، وتبقى فنًا حيًا.