الرائ – رؤى مصطفى - الرياض في مساء يشبه صفحة مطوية من دفتر الذاكرة، احتضنت قيصرية الكتاب بساحة العدل أمسية استعادت للحضور دفء المذياع الأول، ضمن فعالية "مؤلف وكتاب" التي استضافت الإعلامي عدنان محمد صعيدي القادم من جدة للحديث عن كتابه "على موجة طويلة –برامج وإسهامات"، وهو كتاب بدأ كما بدأت الأمسية تمامًا: سيرة تُقلب بأصابع الحنين، وتمتد من موجات البث إلى عمق الذاكرة الإنسانية. أدار الحوار الأستاذ إبراهيم أحمد الصقعوب، الذي تنقل بالصعيدي بين زمنين: زمن البدايات الإذاعية حين كان الصوت هو العالم كله، وزمن التقنية السريعة التي تحاول إعادة تعريف الإصغاء. وبين الزمنين كان الصعيدي يمشي على الموجة نفسها التي عرفها شابًا، ويعيد ترتيب ذاكرة لا تزال متقدة رغم ازدحام السنوات. وخلال الأمسية، استعاد الصعيدي وجوه زملائه الذين رحل بعضهم عن الدنيا، فبدت الأسماء كأنها تعود وتمشي بين المقاعد. وحين تحدث عن الذين غيبهم الموت، ارتعشت نبرته وسبقت دمعة صمته، قبل أن يستعيد تماسكه ويطلق عبارته الأعمق: «الإذاعة هي بيتي». قالها كما لو أنه يعود إلى عتبة قديمة لم يغادرها يومًا، مؤكدًا أن الإذاعة بالنسبة له ليست وظيفة، بل عائلة تشكلت على تردد واحد، وأن فقدان بعض تلك الأصوات يشبه فقدان قطعة من ذاته. وتوقف الصعيدي عند المقدمة بوصفها بوابة الإنصات، وعند الالتزام باعتباره حجر الأساس في ثقة المستمع، مشددًا على أن الإذاعة لا تمنح حضورها إلا لمن يحترم وقتها ومعناها. وأكد أن «المعد الحقيقي لازم يدخل المكتبة الثقافية ويقرأ»، وأن المذيع يختار موضوعاته بما يناسب صوته ولغته وثقافته فالصوت كما يرى لا يكتمل إلا حين يستند إلى جذوره. وفي مشهد استعاد للمكان تاريخه، قدم الصعيدي عرضًا بصريًا عن برامج الإذاعة قديمًا. وذهب الحضور يتنقلون معه بين أصوات رافقت الصباحات والمساءات ومع كل مقطع يُعرض كانت الذاكرة تتحرك في القاعة كما لو أنها توقظ زمنًا نائمًا ينتظر من يلمسه. كما شهدت الأمسية حضور عدد من الإعلاميين الذين أضافوا للمشهد بُعده المهني، من بينهم إيمان بكر يونس وعلاء القيسي، لتبدو الأمسية كأنها تجمع أبناء الإذاعة بين جيلين: جيل حمل المايكروفون عقودًا، وجيل يطل على موجة جديدة. وفي لحظة امتزج فيها الوفاء بالدهشة، تقدم المستشار الإعلامي سعد الجريس ليهدي الصعيدي كتبًا ومجلات إذاعية قديمة، بدت كأنها المفتاح السري لذاكرة المذياع. وأكد الجريس أن الصعيدي أحد أبرز المؤرخين للإذاعة السعودية، لأنه لم يكتب تاريخها فقط، بل عاشه واحتفظ بأصواته في قلبه قبل دفاتره. وفي ختام الأمسية، وقع الصعيدي كتابه للحضور وكانوا واقفين أمامه تشبه امتداد الموجة التي عاش عليها. كان يكتب الإهداء كما يكتب رسالة إلى زمنه الأول بخط هادئ يعرف طريقه، وبابتسامة تؤكد أن الكتاب ليس مجرد إصدار، بل استمرار لصوت لم يخفت. كانت لحظة التوقيع أشبه بتحويل الذكريات إلى ورق حي، يخرج من قلب المؤلف إلى أيدي قارئيه، فتكتمل الحلقة بين المذياع والكتاب والإنسان. وامتد الحديث بعد ذلك إلى تطلعات الجيل الجديد وإلى اختلاف علاقة الناس بالصوت، دون أن تفقد الإذاعة مكانتها حين يكون خلف المايكروفون صوت يعرف الحكاية ويحترمها. وهكذا، لم تكن الأمسية لقاءً ثقافيًا فقط، بل رحلة في ذاكرة الصوت السعودي رحلة جعلت الحضور يدركون أن بعض الأصوات حتى حين تغيب، تظل حية في وجدان الذين أحبوها، وتمتد على موجة طويلة لا تنقطع.