لدي صديق يُحب ديكارت كما يُحب السلفيون البخاري، لمَّا فرغ صديقي من قراءة مقالة (ديكارت يسرق منحوتة القديس) شعر بأنَّ ضغطَه ارتفع، فتناول حبة الأسبرين منعًا لأي جلطة عارضة، ولما هدأ قليلا أرسل رسالة (يُشَرشح) بها المقالة، واصفًا إياها بضعف الدقة المنهجية التي علمنا ديكارت، فهناك فرق بين الإيحاء والسرقة، يجب على المقالة أن تلتزم به. صديقي يرى أنَّ المقالة حين أعلنت أنَّ ديكارت سارق فإنها تعتسف التأويل وتوحي بواقعةٍ لم تحدث. ثم يعقب بغضب: «وهذا كله في حال افترضنا أنَّ ديكارت وقف شاهدًا فعليًا على لوحة القديس». اتصلتُ به لأهدئ من غضبه قلت له: اطمئن، حاشا لله أن نتهم ديكارت، فالمقالة استخدمت السرقةَ كلعبةٍ لغوية لتكشف علاقةَ مدهشة بين ما فعله برونليسكي في العمارة والمنظور، وما فعله ديكارت في بناء اليقين. إنها تتلمّس رابطًا إبداعيًا ومبتكرًا بين عالمين قد يبدوان منفصلين، فديكارت- من حيث يدري أو لا يدري- كان يُكرر آليات فكرية سبق أن جسدها برونليسكي ودوناتللو فنيًا في العمارة والنحت، لهذا فالتشابه الذي ورد في المقالة، لا يكمن بالضرورة في لقاء مباشر أو اقتباس واعٍ، بل في التوجّه المنهجي المشترك نحو تجاوز ضبابية اللايقين وبناء نظام مرجعي ثابت. اضطرَّ صديقي بعد الاتصال أن يتناول جرعةً مكثّفة من الأسبرين، وأيقنتُ بعدها أنه سيدخل الجنةَ بلا حساب ولا عذاب لأنه ابتُلي بي وبشطحاتي على أحبائه الديكارتيين. وقد صبر واحتسب، فجزاه الله عن الديكارتيين كل خير. أذكر هذه الحكاية مع صديقي؛ لأني وجدتُ اعتراضه هدية ثمينة لفهم «كيف تعمل القاعدة الأساسية في النماذج الاصطناعية اللغوية»، فصديقي حين ينتفض مطالبًا بوضوح المعنى وبرهان الفكرة لا يفعل سوى ما تفعله خوارزمية نموذج الذكاء الاصطناعي اللغوي حين تبحث عن الكلمة الأكثر احتمالًا، فتقصي كل ما لا ينسجم مع السلسلة المنطقية التي تدربت عليها. النموذج الاصطناعي - مثل صديقي - يُفتّش في بحر النصوص عن مسار واحدٍ متماسك، يرفض أن يترك الجملة معلقة في فضاء الاحتمالات. كل ما يُنتجه هو انهيار الدالة الموجية إلى كلمة محددة، كما يريد صديقي أن تنهار المقالة إلى حجة واحدة لا لبس فيها. ولذلك يُمكن أن نجعل غضبة صديقي الديكارتي وسيلةً لإيضاح آلية عمل النماذج اللغوية الاصطناعية: فإصراره على الدليل القطعي يُشبه النموذج الاصطناعي وهو يبحث في كل خطوة عن الاحتمال الأكثر اتساقًا مع السياق السابق، متجاهلًا أي خيار لا تدعمه بياناته بقوة. كما أنَّ رفضه للاستعارات المفتوحة يعكس بدقة طريقةَ النموذج في تصفية المسارات غير المألوفة التي قد تبدو خارجة عن منطق بياناته، مفضلا الطريقَ الآمن والقابل للتنبؤ. لكن يجدر بي أن أنبّه إلى أنَّ هذا الصديق كائن غضوب وحادّ، ينفعل ويتشنّج ثم يهدأ ويُعيد النظر في موقفه، وهذا أبعد ما يكون عن النماذج الاصطناعية، لهذا يتجلى الفرق بينهما في أنَّ الصفاتَ العاطفية تجعل الصديق يضع نماذجه الآلية في داخله، فيكون المُوجِّه في حالته نابع من ذاته، أما النموذج الاصطناعي فموجّهه خارجي، يمكنه أن ينجرف إلى استعارات وإدهاش إذا وُجِّه إلى ذلك، لكنَّه من دون هذا المُوجّه لن يُنتج إدهاشًا، وكأنَّ النموذجَ الاصطناعي ينقسم إلى ملايين الانقسامات بحسب عقلية وإبداع الذين يُوجهونه، مع أنَّ القاعدة النموذجية الخام تظل واحدة في كل حال. إلا أنَّ الذي سيجلط صديقي فعلًا هو أنَّ الذكاء الاصطناعي قد يتواطأ ضده بالهلوسة، وهي إنتاج معلومات غير صحيحة أو مختلقة كمرجع وهمي، أو حدثٍ لم يقع، أو مفهومٍ ملفق، وهذا جزء من عمل النماذج الاصطناعية، وهو ما يُخيف المحافظون والباحثون عن حقيقة الاستقرار. لكن بما أنَّ الهلوسةَ الاصطناعية قد تفتح بابًا لفكرةٍ لم تكن موجودة، كفكرةِ الوهم الحقيقي الذي تحدثت عنه مقالة (ديكارت يسرق منحوتة القديس)، فإنَّ صديقي كاره لها مع أنَّها من تجليات الآلة التي صُمّمت بمنطق حداثي ديكارتي.