في زاوية من زوايا كنيسة سانتا ماريا عُلِّقَت لوحةٌ لبارمجيانينو تُجسِّد مريم العذراء برقبةٍ طويلةٍ كأنَّها حيْكَت من خيوطٍ لا تُرى، وتُجسّد المسيح وهو طفل كظلٍ مُشَوّه. هذه اللوحة تَظهر للرائي أنَّها انحرافٌ فنيٌ كما هي عادة الفنَّانين في أزمنةٍ مختلفة، ولكن ماذا لو كانت انحرافًا عن فكرةِ الكمالِ نفسِه الذي أصبح عبئًا؟ الكمالِ الذي تَصوّره الإنسانُ دينيًا وفلسفيًا؟ كمالِ التاريخ كما تخيله الفلاسفةُ النَسقيّون؟ حكاية اللوحة متعلقةٌ بظرفٍ بلغَ فيه تاريخُ الفَنِّ مبلغًا نهائيًا في نَظَرِ الإنسانِ النَسَقي، إذ كان ذلك الزمن -مطلع القرن السادس عشر- لا يحكي إلا عن الذروةِ الفنيةِ التي صنعها مايكل أنجلو، ورفائيل، وليوناردو دافنشي، فماذا سيُبدَع بعدهم؟ كأنَّهم سيبويه في نظر المازني حين قال: «من أراد أن يكتب في النحو بعد سيبويه فليستَحِ». ومن أراد أن يرسم بعد رافائيل فليستح، لكنَّ بارمجيانينو لم يستَح، وكانت ثمرة التَّحدي وعدم الحياء لذلك الجيل الفني أن وُلِدت (المانرية) وهي لفظةٌ إيطالية تعني الطريقة أو الأسلوب، ترفض التَّناغمَ الطبيعيَّ الذي وُضِعَ له مسارٌ تاريخي انتهى بجيل فنِّ النهضة العليا، لهذا صار هؤلاء النسقيّون يُنشِّزون من يخرج عن هذا المسار، لكنَّ جيلَ المانرية كان لهم بالمرصاد فصنع فنًا يعتمد على التشويه، والالتواء، والفراغات، والألوان المتنافرة، والدراما المفتعلة. وكل هذه التعبيرات تفترض أنَّ التاريخ له مسار محدد والخروج عنه تشويه والتواء وفراغ وتنافر وافتعال وغموض، وقد سمَّاها مؤرخو الفن الكلاسيكي انحدارًا، وسماها مؤرخو الحداثة تصدّعًا داخليًا ضروريًا قبل الإصلاح الديني وبعده، لهذا تُظهر المانريةُ الجمالَ بوصفه اختلالا، يَكشِف ما يحدث عندما يُصَنَّم الكمال، عندما تكون النظريةُ في حركة التاريخ وثنًا. إذن المانرية تجربة واعية لتحقيق معنى يتجدد دائمًا يُمكن تسميته ما بعد الكمال. يُخلَق من هذا المعنى المُتَجدّد مصطلح (الأرض الثالثة) وهي التي تأتي بين أرضِ الواقع وأرض الكلام، فأرضُ الواقع وعدت بأنَّ الصراع التاريخي الطبقي سيُفضي إلى أن يُحقّق الإنسان -بالثورة والدكتاتورية والتقدم- لحظةَ اكتمال: (حرية، مساواة، معنى، مصير) لكنَّ الواقعَ الفعليَّ لم يُنتِج هذا الاكتمال، بل أنتج صورتَه المُشوهة، كما هي حركة المانرية في الثورة على جيل النهضة العليا، ومن هذه الصورة المُشوهة خرج ما يُسمَّى اليسار العالمي المتشظي كحصيات جبال السروات، العاجز عن تحديد النهاية كما رسمتها النظريةُ التي خدعته وخدعت قبله جيلَ رافائيل في رسم حركةٍ تاريخية لها ذروة اكتمال. وأما أرضُ الكلام التي قال عنها محمود درويش: «من يكتب حكايته يرث أرضَ الكلام، ويملك المعنى تماما» فهي مفهوم دلالي يتشكّل بالخطابات، ويُستعاد بالحكي والتأويل والذاكرة، وتُملَك لمن يملك السردَ، لمن يستطيع أن يُرتّب الماضي بالشكل الذي يمنحه موقعًا رئيسًا في الحاضر. وقد انهارت أرضُ الكلام -كما انهارت أرضُ الواقع- حين بلغ تاريخ السردِ الحتمي ذروته، السرد الذي يُنتَج لتسويغ السيطرة، أو الاحتلال، أو حين تُوظَّف الحكايةُ لصياغةِ شرعية امتلاك الأرض كما فعل الصهاينة. التفاتة: ربما الأرض الثالثة هي الإقامة داخل الهشاشة، داخل اللحظة التي نُدرك فيها أن لا أرضَ تُستعاد بالكامل، ولا كلامَ يُقال تمامًا، وأنَّ ثمة كتابة تُقاوم نهاية المعنى، أو ربما هي جغرافيا ما بعد انهيار الانتصارات الواقعية المشوهة، وانهيار المعنى السردي النسقي. هذه الأرض لا تَعِد بشيء بل تسأل: كيف يُمكن أن يُعاش بعد أن تفكّكت الغايات؟ بعد أن صارت كل النهايات إخراجًا سينمائيًا؟ بعد أن صارت كلُّ الخطابات التحررية شعارات تسويقيّة؟