لم يعد التهديد الذي يواجه الأوطان اليوم عسكريًا أو أمنيًا فحسب، بل أصبحت المعركة الحقيقية معركة وعيٍ تُبنى فيها العقول كما تُستهدف فيها؛ في آنٍ واحد، حيث يعمل الخصوم على صناعة تراكماتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وإعلاميةٍ مضلِّلة تُرسم من خلالها صورٌ ذهنيةٌ تحجب الحقيقة عن الأفراد وتُربك وعيهم الجمعي. وهذا يقودنا إلى إدراك أن تلك المعركة ليست عشوائية، بل تقف خلفها مشاريع فكرية خارجية تتسلّل بخبثٍ عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، بل وحتى من خلال الألعاب الإلكترونية على شبكة الإنترنت، مستهدفةً زعزعة الثقة، وتشويش الانتماء، والتقليل من شأن المنجزات الوطنية. وقد نبّهت رئاسة أمن الدولة في وطننا الغالي إلى هذا الخطر تحديدًا، حين أكدت وجود سرديةٍ موجهةٍ ضد المملكة العربية السعودية، تسعى للنيل من استقرارها ووحدتها وتماسك مجتمعها. في هذا المشهد، تغدو المدرسة أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية، بل فضاءً محوريًّا لصناعة الوعي وتعزيزه، ولا سيما في المراحل العمرية التي تتشكّل فيها القناعات وتُبنى فيها الثوابت. ومن هنا، تتجه الأنظار بجدّية إلى مديري ومديرات المدارس، فهم الأقرب إلى الطالب، والأكثر قدرة على التأثير فيه، إذ يديرون يومًا دراسيًا حافلًا بالفرص: فرصة للحوار، وأخرى للتصحيح والتوجيه، وثالثة لغرس القيم وتعزيز الهوية الوطنية. وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة اليوم إلى مديرٍ أو مديرةٍ يتجاوزان الدور الإداري التقليدي، ليكونا في مستوى متقدّم من الوعي والإدراك، قادرَين على أن يكون لهما أثرٌ فكريٌّ وتربويٌّ عميق في محيطهما اليومي. ومن أهم مجالات هذا الأثر تعميق مفهوم الهوية الوطنية؛ ذلك أن الهوية -كما يوضح عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غيدنز- هي تصوّر الأفراد لأنفسهم، ولِما يعدّونه مهمًا في حياتهم، أي إنها نتاجٌ لوعي الإنسان بذاته وتفاعله مع مجتمعه، وليست معطًى ثابتًا أو موروثًا جامدًا. ومن هنا تتجلّى مسؤولية مدير المدرسة وفريقه في تحويل هذا الفهم النظري إلى ممارسةٍ واقعيةٍ داخل البيئة التعليمية. ومن الواجب اليوم أن يتحرّك مديرو المدارس في عددٍ من الاتجاهات الأساسية، من أبرزها: تحويل المدرسة إلى بيئةٍ تعزّز الانتماء وتبني الهوية الوطنية، لا على مستوى الشعارات، بل من خلال الممارسة اليومية والأنشطة الهادفة التي تترجم القيم إلى سلوك ملموس. رصد أي مؤشرات فكرية مقلقة بين الطلاب أو الموظفين، والإبلاغ الفوري عنها وفق التعليمات الرسمية، مع استخدام الحوار والتوجيه البنّاء كأداة داعمة للتوعية والتصحيح، لا كبديل عن الالتزام بالتعاميم والتعليمات. تفعيل اللجان والفرق المدرسية عبر بناء فريق عمل واعٍ ومدركٍ لطبيعة المرحلة، يُدرك أن مواجهة السرديات الموجَّهة تستلزم عملاً جادًا ويقظةً لما يدور داخل أوساط الطلاب مع التنسيق مع الجهات المعنية عند الحاجة. تمكين الطلاب من أدوات الوعي الحقيقي، وتدريبهم على التمييز بين الحقيقة والتشكيك، وبين احترام الوطن وأنظمته والانجراف خلف حملاتٍ أو هاشتاقاتٍ تضعف ذلك الاحترام. ولتعزيز هذه الجهود العملية، لا بد من تذكّر أن هدف التعليم أعمق من مجرد السلوك الظاهر؛ إنه تنمية العقل وتمكين الطالب من الفهم الواعي. وفي هذا السياق، تبرز مقولة سقراط: (الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش)، وهو ما يكتسب بُعدًا معاصرًا في دور مدير المدرسة في تحفيز التفكير النقدي لدى الطلاب. فالمهمة الحقيقية للمدرسة اليوم هي تحفيز هذا العقل على الفحص والتمييز والإدراك، ليبقى الطالب محصّنًا وواعيًا، غير قابل للتأثير أو التلاعب من الخارج أو الداخل. ولا شك أن النهوض بهذه المهمة يتطلّب إسنادًا ممنهجًا على مستوى السياسات التعليمية العليا، وهو ما تسعى وزارة التعليم إلى تحقيقه من خلال مشروعها النوعي (ترسيخ القيم وتعزيز الهوية الوطنية) تحت شعار هذا العام «تعليمنا قيم»، حيث بدأت مرحلته الأولى ونأمل أن يحقق مستهدفاته المرسومة منه. كما يجب ألا يقتصر الدور الإشرافي على المدارس على الشكل التقليدي، بل يتحوّل إلى دور داعم وممكّن لمديري ومديرات المدارس، لتعزيز قدرتهم على توجيه الطلاب وتنمية وعيهم وحمايتهم من السرديات المضللة في إطار التعامل اليومي مع العملية التعليمية، وذلك من خلال توجيه عملي فعّال وتطوير أدوات قياس واقعية تُظهر أثر الإدارة المدرسية في تحصين الطلاب من السرديات المرجفة ومظاهر التشويش الخفي. وإذا كانت تلك السرديات تهدف إلى تقليل قيمة ما نملك في وطننا الغالي حتى يسهل التنازل عنه، فإن المدرسة، مع مديرها وفريق عملها، هي من يُعيدون التذكير بما نملكه حقًا: من قيم راسخة، وهوية متجذّرة، ووطن كريم. فالمعركة اليوم ليست في الخارج فحسب، بل داخل العقل، وفي النص، وفي الكلمة والصورة، وفي المواد الإعلامية التي تُبث عبر المنصات المختلفة، سواء في التلفاز أو على يوتيوب وسواهما. وكل مدرسة تُدار بوعي وبصيرة، تصبح سورًا منيعًا ضد الانقياد الأعمى والتشويش الخفي. وإن كان من اقتراحٍ لوزارة التعليم ورئاسة أمن الدولة، فأرى أهمية التنسيق بين الجهتين لتصميم برنامج تدريبي محكم ومتكامل يوجَّه إلى مديري ومديرات المدارس، ووكلائهم، والموجّهين الطلابيين، يعزز دورهم في مواجهة السرديات الموجَّهة، ويمكّنهم من فهم أدواتها وأساليبها، وتطوير مهارات التعامل الواعي معها داخل البيئة المدرسية. ونختتم بالتأكيد: لا سقف يعلو فوق سقف الوطن.. اللهم احفظ المملكة العربية السعودية قيادةً وشعبًا بحفظك ورعايتك.