يقيس بعض الأفراد نضجهم بتقدّمهم في العمر، متناسين أن الزمن وحده لا يصنع وعيًا، وهذا بلا شك ليس انعكاسًا مباشرًا للعمر، بل حصيلة مسار داخلي طويل، تُشكّله التجارب، والخسارات والأسئلة التي لا تُطرح على عجل. قد يتقدّم الإنسان في وعيه أسرع من سنواته؛ فيحمل داخله زمنًا أعمق مما يظهر على ملامحه، وقد يتأخر آخر لا لقلة ذكاء، بل لاختلاف الرحلة. وحين يتقدّم زمنك الداخلي تبدأ بسماع عبارات وأفكار وتجارب تشعر أنها تعود لمرحلة عبرتها منذ وقت بعيد لا لأنك تجاوزت الناس، بل لأنك تجاوزت نقطة داخل نفسك. وهذا الإحساس قد يُترجم أحيانًا كحكم صامت، بينما جوهره الحقيقي هو شعور بالانفصال الزمني عن مرحلة لم تعد تمثلك. كما أن التحدي لا يكمن في الإحساس بالتقدّم، بل في نسيان أن الوعي لا يسير بخط مستقيم عند الجميع. ما كان كشفًا مؤلمًا لك في الماضي قد يكون بداية وعي لشخص آخر اليوم. والمقارنة هنا لا تكون عادلة لأنها تتجاهل اختلاف الظروف والوتيرة، والقدرة على المواجهة. ولا سيما أن النضج المرتبط بالتقدّم الزمني الداخلي لا يُنتج تعاليًا بل مسؤولية أخلاقية أعمق. مسؤولية أن ترى من خلالها المراحل دون السخرية منها، والأخذ بالحسبان أن ما يبدو"قديمًا" كان في يومٍ ما اللغة، ومحاولة الفهم الأولى والوعي الحقيقي، لا إقصاء المراحل؛ بل الاعتراف به كجزء من الرحلة. ويجب أن نعي بكل الوعي أن التقدّم الزمني الداخلي ليس سبقًا على الآخرين، بل تصالحًا مع الذات عبر الزمن وإدراك المسافة دون أن إنكار الإنسانية، وحمل الوعي دون تحويله إلى أداة تطلق الأحكام، وحين يُعاش بهذه الطريقة يصبح الوعي ليس مقاسًا بمن سبق، بل بما اتّسع في الداخل.