يعتبر العمر من الثلاثين إلى الخمسين من أكثر مراحل الحياة تعقيدًا وتحوّلاً من الناحية الفكرية والنفسية عالمياً. وفي هذه المرحلة، يمرّ الإنسان بتغيّرات داخلية عميقة، تشبه نوعًا من "الولادة الثانية" للعقل والروح. بينما تكون العشرينات مرحلة التجريب والاندفاع، تأتي الثلاثينات لتفرض الواقعية، وتليها الأربعينات والخمسينات بمزيج من التقييم، التخفف، وأحيانًا الندم أو الرضا. في بداية الثلاثينات، يسعى الكثير إلى التوسع: بناء أسرة، تطوير مهنة، امتلاك منزل، تأسيس علاقات جديدة. لكن مع التقدم في السن، خاصة بعد الأربعين، يبدأ التحول نحو التركيز والتصفية. فالأصدقاء يقلّون، والأولويات تنكمش، وتصبح الراحة والهدوء أهم من التنوع والانشغال. يبدأ الإنسان بطرح أسئلة أعمق: ما الذي أريده حقًا؟ هل ما أفعله يُشعرني بالمعنى؟ هذه الأسئلة تقود إلى تغيّر في طريقة التفكير، بحيث يصبح العمق أهم من الكم. في الثلاثينات، تكثر الرغبة في التحدي، إثبات الذات، والمنافسة. لكن مع مرور الوقت، تتغير النظرة تدريجيًا إلى التقبل والنضج. يبدأ الإنسان في تقبل نقصه، وفشل بعض مشاريعه، وخسارة بعض العلاقات دون أن يشعر بالدونية أو الخجل. بل إن الكثير ممن يبلغون الأربعين وما بعدها، يصبحون أكثر قدرة على قول "لا" بوضوح، وعلى الابتعاد عن المعارك غير الضرورية. هنا يظهر التحول من العقلية المثالية إلى العقلية الواقعية المتزنة. الاهتمام بالمظاهر، بالانطباع الذي نتركه لدى الآخرين، وبصورة النجاح الاجتماعي، يسيطر غالبًا في الثلاثينات. لكن كلما اقترب الإنسان من منتصف العمر، يتحول تركيزه تدريجيًا إلى الداخل. تبدأ رحلة الاهتمام بالسلام النفسي، والانضباط الذاتي، والتصالح مع النفس. تقلّ المقارنات، وتزداد الرغبة في حياة بسيطة، حقيقية، غير مستنزفة. كثيرون يبدؤون في هذه المرحلة بمحاولات التأمل، أو القراءة الهادفة، أو حتى العزلة الصحية. فهم يبحثون عن صوتهم الحقيقي، بعد سنوات من الصخب. في منتصف الأربعينات، يعيد الإنسان تقييم حياته: قراراته، علاقاته، مهنته، طريقه بالكامل. يُسمّى هذا أحيانًا ب"أزمة منتصف العمر"، لكنها في حقيقتها مرحلة مراجعة فكرية عميقة. البعض يندم، البعض يغضب، والبعض يصحّح المسار ويولد من جديد. المراجعة ليست فشلًا، بل علامة على النضج، لأن الإنسان في هذه المرحلة يمتلك من الوعي والتجربة ما يجعله قادرًا على التمييز بين ما يريده حقًا، وما تم فرضه عليه. من أبرز التحولات الفكرية بين الثلاثين والخمسين، هو التخفف من عبء الأنا. الشخص في هذه المرحلة يتصالح مع فكرة أنه ليس مضطرًا لإثبات نفسه طوال الوقت. يبدأ في ترك بعض النقاشات، وعدم الرد على كل شيء، وقبول أن يكون في الخلف أحيانًا دون شعور بالنقص. هذه السكينة لا تأتي فجأة، بل نتيجة سنوات من التجربة، والسقوط، والتعلم، والصبر. أخيراً: هذه التحولات الفكرية ليست علامة ضعف أو تراجع، بل ارتقاء نحو وعي أعمق بالحياة والنفس. في هذه المرحلة، يتجه الإنسان من الخارج إلى الداخل، ومن الصخب إلى السكينة، ومن التشعب إلى البساطة. هي مرحلة النضج، حيث يصبح العقل أكثر حكمة، والقلب أكثر رحمة، والنفس أكثر تصالحًا. ومن فهم هذه التحولات، عاش هذه المرحلة بهدوء، لا كأزمة، بل كفرصة لإعادة تشكيل الذات بأجمل صورة. عبدالكريم الدريبي