انتشرت مؤخرا مزحة غريبة حيث يركب بعضهم صورة لمجهول في وسط المنزل، ثم يرسلها لقريب على أن أحدهم تقمص شخصية صديق قديم طمعا في ردة فعل مضحكة. تتوالى الصرخات فتتبعها الضحكات، وينتشر المقطع. تبدو القصة دعابة بريئة، لكنها صورة لآلية أعمق تغذي بها أدوات الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل بعضها بعضا في دوائر متكررة من التضليل والمكافأة. إذا نظرنا للمنظومة، فكل مقلب يعمل داخل شبكة من حلقات متجاورة من التعزيز والكبح في تشغيل هذه الظاهرة.. أولا: حلقة الانتشار والظهور. كلما سهلت أدوات الذكاء الاصطناعي، انخفضت عتبة الدخول. صورة واحدة مقنعة تبدأ الشرارة، فتدفع غيرها إلى التقليد. خوارزميات المنصّات تكافئ الانفعال وتضخم الخوف أو الضحك، لجاذبيتها. هكذا يتضاعف عدد المشاركين وهم بلا وعي يدربون النظام على تفضيل الصدمة مقابل الحقيقة. ثانيا: تأتي حلقة الواقعية وتآكل الثقة. كلما ازدادت واقعية الصور المولدة، تدنت قدرتنا على التمييز بين الحقيقي والمزيف. نجاح المزحة يعتمد على هذا الالتباس تحديدا. بعد وقت قصير تتآكل الثقة فنشك: ربما هي من صنع الذكاء الاصطناعي. تتراكم الشكوك حتى تقوض ثقتنا المشتركة فيما نراه. وكلما تحسنت الواقعية، دارت حلقة جديدة: لعلي أستطيع خداعهم هذه المرة. ثالثا: تعمل حلقة تحسين النماذج. فكل تجربة جديدة تقدم بيانات إضافية تستخدم لتدريب النماذج وتحسين قدرتها على المحاكاة. يتحول اللعب إلى بحث وتطوير مجاني لشركات الذكاء الاصطناعي. المزاح الذي بدأ بريئا أصبح وقودا لتزييف أكثر إتقانا غدا. بعد كل ذلك لن يبقى المجتمع مكتوف اليدين. مجموعة من التحذيرات والصدى الإعلامي، وتشريعات المنصات تبدأ في تكوين حلقة جديدة للموازنة، كما لو أن النظام يملك جهازا مناعيا مستقلا. لكن المشكلة أن الاستجابة بطيئة. تتحرك القوانين بالشهور، بينما ينتشر المحتوى في دقائق. وعند التطبيق، تتكون حركة جديدة لا علاقة لها بالأولى قد بدأت. يسمي الاقتصاديون هذه الظاهرة بمأساة المشاع. يسعى كل فرد إلى مكسب شخصي، دقائق من الضحك وربما الشهرة، لكن النتيجة الجماعية هي تلويث الفضاء المشترك للمعرفة. لم تعد المسألة مجرد مزحة داخل العائلة، إنما هدم للبنية النفسية والاجتماعية التي تثمن الحقيقة. حين يعم الشك في كل صورة، تصبح الأدلة الحقيقية مهددة أيضا. لكن تحليلنا للحلقات يساعدنا في إعادة تصميمها. يمكن أن تكافئ المنصات الموثوقية بدلا من الإثارة بتعديل خوارزمياتها. يمكن لمطوري الذكاء الاصطناعي تعزيز الثقة بتضمين علامات رقمية لا تمحى تشير إلى أصل الصورة. يمكن للمدارس تعليم القراءة البصرية النقدية كما تعلم القراءة اللغوية. الظاهرة ليست غريبة تماما، فهي انعكاس للنظام الذي صنعناه. نظام يحول مشاعرنا لبيانات، وانفعالاتنا لوقود لحلقات جديدة. السؤال ليس ما إذا كان النظام سيتغير، لكن هل سنتغير نحن لنعزز حلقات الخداع أم حلقات الوعي؟