ما بين خيمة الشعر في عكاظ وقبة معرض الكتاب الدولي في الرياض، ما تغير هو الزمان فقط، أما الروح فواحدة، فبين منصة الشعر ومنصة الكتاب مازلنا نحمل الكلمة كهوية، فأصبح معرض الرياض الدولي للكتاب اليوم سوقاً حديثه للفكر والمعرفة تعرض فيها الأفكار وتختبر فيها اتجاهات الوعي المعاصر، ففي الرياض اليوم الكلمة تُكتب وتُناقش وتوثق لتصنع رأياً عاماً جديداً بأدوات العصر ذاته من (الوعي والتأثير). قديماً كان عكاظ منبراً شفهياً للكلمة، وأما الآخر فمنبراً معرفياً متعدد اللغات والأصوات، فعكاظ جمع العرب حول البلاغة ومعرض الكتاب يجمع العالم حول الثقافة السعودية والعربية المتجددة. نعم، إنه الامتداد الطبيعي لروح العرب القديمة التي كانت ترى في الكلمة قدراً والبلاغة هوية والشعر سلطة. حين نقرأ بعضنا.. نفتح كتاباً فنجد بين سطوره ما يشبهنا أو نسمع ندوة فنتعلم كيف يختلف الآخر عنا دون أن يُقصينا.. بهذا المعنى معرض الكتاب لا يقرؤنا بالكتب فقط إنما بما نكونه ونحن نقرأه، كُل قارئ يترك أثره، وكل لقاء يعيد تعريف علاقتنا بالمعرفة والهوية والانتماء، وحين نجتمع حول الكتاب فإننا لا نبحث إلا عن أنفسنا، ما يدهش في هذا الحدث أنه لا يُفرق بين قارئ جاء باحثاً عن رواية، وآخر جاء ليوقع كتابه، وثالث جاء ليُدلل سمعه ببيتٍ من الشعر، الجميع يتحركون في المساحة نفسها، وبينهم تحدث أعظم أشكال الحوار غير المنطوق، ما أجمل هذه التجربة الجماعية المتكررة التي نرى فيها أنفسنا في عيون الآخرين تحت مظلة رؤية المملكة 2030 التي حولت هذه الثقافة من نشاط ثانوي إلى قوة وطنية ناعمة لها مؤسساتها وهيئاتها ومواسمها وأيامها التي تُحتفى بها، معرض الرياض الدولي للكتاب اليوم هو نتاج رؤية طويلة الأمد أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والثقافة. أصبح الكتاب وسيلة للنهضة ووجهاً جديداً لصورة السعودية التي تُقدر الفكر كما تقدر الاقتصاد والفن والابتكار، نرى ذلك في تنوع الأجنحة، حضور الشباب والنساء والرواد وأيضاً في مساحة الحرية الفكرية التي تفتح فيها الحوارات بلا توجس ولا حدود سوى الوعي والاحترام. وتبقى الرسالة الخالدة هي فعلاً (الرياض تقرأ)، وكأنّها وعد أن تبقى هذه المدينة منارة للمعرفة، فالرياض حين تقرأ يقرأ الوطن معها وتزهر الحروف في كل بيتٍ وذاكرة.