"خمس سنوات من تجميد الإيجارات تكشف جودة القرارات الاقتصادية وتعيد الاعتبار لقراءة بيانات هيئة الإحصاء".. في شوارع الرياض، وتحديدًا في أحياء مثل الملقا، يمكن أن ترى قصة السوق كما هي بلا رتوش: مقاهٍ تفتح أبوابها في حماس، ثم تُغلق سريعًا تاركة لافتات مؤقتة وكراسي فارغة. المشهد يتكرر، والسبب ليس الإيجار وحده كما يردد كثير من المستثمرين، بل غياب الوعي بديموغرافية السكان واحتياجاتهم الفعلية. هنا يطل القرار الاستراتيجي القاضي بإيقاف الزيادة السنوية في الإيجارات لمدة خمس سنوات كاختبار عملي، ليس لضبط العقار فقط، بل لإعادة ضبط السوق كله، وكشف من يقرأ الأرقام قبل أن يفتح محله، ومن يسير بعشوائية ويلوم الظروف. هذا التجميد لا يُعيد فقط ضبط السوق العقاري، بل يكشف بوضوح عن حجم الفشل التجاري المبني على قرارات فردية غير مدروسة. إذ لم يعد هناك مجال لتعليق الخسائر على شماعة الإيجار؛ فالأسعار ثابتة، والميدان الآن يختبر صلابة الرؤية وجودة التخطيط. ومفهوم تجميد رفع الإيجارات يعني ببساطة وقف أي زيادات على الإيجار لفترة زمنية محددة، بحيث يظل المستأجر يدفع نفس القيمة المتفق عليها في العقد السابق، حتى لو حاول المالك رفع السعر بحجة السوق أو التضخم. وهذه الممارسة ليست سعودية فقط، بل لها تطبيقات في دول مختلفة: ففي ألمانيا مثلًا، هناك سقف محدد للزيادة لا يتجاوز 10% خلال ثلاث سنوات، وفي أسكتلندا صدر قرار بتجميد الإيجارات مؤقتًا بعد أزمة غلاء المعيشة، بينما في بعض ولايات أميركا مثل كاليفورنيا ترتبط الزيادة بنسبة محدودة مضافًا إليها معدل التضخم. ما يميز القرار السعودي أنه أكثر وضوحًا وجرأة: تجميد كامل للزيادة لمدة خمس سنوات، وهو ما يخلق استقرارًا كبيرًا للمستأجرين، ويجعل السوق أمام اختبار حقيقي للتجار وأصحاب الأعمال؛ فإذا فشل مشروع، فالفشل هنا لا يُعلَّق على شماعة الإيجارات، بل على ضعف التخطيط أو سوء قراءة السوق. تجميد الإيجارات يفتح الباب لإعادة هيكلة الأعمال، فمن يملك نموذجًا اقتصاديًا سليمًا سيبقى، بينما سينسحب من لم يقرأ المجتمع جيدًا. والانسحاب في حد ذاته ليس مؤشرًا سلبيًا؛ بل هو تنظيف طبيعي للسوق يكشف الأخطاء المتراكمة. وهنا تصبح لغة الأرقام أكثر وضوحًا: ليس كل من أغلق نشاطه ضحية الظروف، بل كثيرون ضحايا سوء التخطيط. حي الملقا ليس المتهم الوحيد الذي يرمون عليه تهم فشلهم، بل إن الضعف الحقيقي يكمن في غياب الوعي بنوعية السكان واحتياجاتهم. الحي ذكي ولا يقبل الضعفاء، يفرز الأنشطة بعين المجتمع لا بأوهام المستثمر. والمفارقة أن الحل موجود ومتاح لكنه قليل الاستخدام. فالهيئة العامة للإحصاء أطلقت منذ 2023 خدمة ديموغرافية الأعمال، تنشر فيها بيانات دقيقة حول عدد الكيانات النشطة والجديدة والمغلقة، مستندة إلى سجلات وزارات وهيئات حكومية متعددة. والأهم أن هذه البيانات تُنشر مجانًا وبمنهجية موثقة وجودة مضمونة، كما ورد في تقريرها الرسمي "منهجية وجودة إحصاءات ديموغرافية الأعمال". أي مستثمر يستطيع أن يعرف مسبقًا طبيعة السكان في الحي، أعمارهم، دخولهم، واحتياجاتهم قبل أن يضع أمواله في مقهى ثامن أو مطعم مكرر. لكن الخلل، كما هو ظاهر في شوارعنا، لا يكمن في نقص المعلومة بل في تجاهلها أو التعامل معها كترف لا كأداة لصناعة القرار. قرار تجميد الإيجارات إذًا ليس مجرد ضبط لسوق العقار، بل دعوة لإعادة تشكيل الثقافة الاقتصادية. إنه اختبار عملي للجرأة على مواجهة الحقائق: من يلوم الإيجارات اليوم لن يجد غدًا ما يبرر فشله سوى ضعف خطته. والشارع سيصير أصدق شاهد: من يصمد هو من فهم المجتمع، ومن انسحب هو من قلد غيره دون وعي. وبين مشهد المقاهي المتكدسة في الملقا، والقرار الاستراتيجي لتجميد الإيجارات، تتجلى معادلة جديدة في السوق السعودي: النجاح ليس في فتح الأبواب، بل في قراءة الأرقام قبل فتحها. والبيانات اليوم متاحة، شفافة، ومجانية من هيئة الإحصاء، والباقي يتوقف على جدية المستثمر في أن يفتح عينيه قبل أن يفتح محله.