إن المواطن عليه مسؤولية كبيرة، ويتوجب أن يكون في دائرة الوعي عندما يتفهم حاجته الحقيقية للسكن من خلال هذه المكرمة الكبيرة، وأن يتفاعل معها بحس وطني يجعله يتخلص من مصلحته الخاصة لأجل المصلحة العامة، فلا يقدم على هذا الأمر إلا إن كان محتاجًا مستحقًا لا مستثمرًا.. حين أعلنت الجهات المختصة عن شروط التقديم لشراء الأراضي السكنية في مدينة الرياض، وبسعر لا يتجاوز (1,500 ريال) للمتر المربع، بدا الأمر للوهلة الأولى وكأنه إجراء تنظيمي لحماية السوق وضبط الطلب. لكن القراءة المتأنية تكشف أن هذه الخطوة تحمل في طياتها انعكاسات أعمق تتجاوز العقار كسلعة، لتصل إلى صميم التنمية الاجتماعية، وإعادة تشكيل المشهد العمراني، وترسيخ استحقاقات وطنية ترتبط بعدالة التوزيع ورفع جودة الحياة. وكان من بين الشروط التي وُضعت: أن يكون المتقدم متزوجًا أو قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. هذا ليس تفصيلًا عابرًا؛ بل هو إدراك أن الأسرة أو بداية الاستقلال الفردي تمثل نواة الاستقرار الاجتماعي. السكن ليس مجرد سقف يقي المطر وحر الشمس، بل هو قاعدة انطلاق نحو بناء حياة متوازنة، ومن دون هذا الأساس يظل الاستقرار مرتبكًا؛ أما اشتراط الإقامة في الرياض لثلاث سنوات على الأقل، فهو يربط الاستحقاق بحاجات فعلية لا رغبات عابرة. إنه شرط يضمن أن الأرض بحول الله ستُعطى لمن جعل من المدينة موطنًا ووجهة حياة، لا لمضارب يبحث عن فرصة عابرة. ولا شك أن أحد أكثر البنود دلالة هو منع التقديم لمن يملك عقارًا آخر؛ بهذا الشرط يسحب البساط من تحت المضاربات، أو الأطماع، ويُعاد التوازن إلى شريحة لم تستطع دخول السوق من قبل. حقيقة أن العدالة في توزيع الأراضي تُعد انعكاسًا مباشرًا لسياسات تنموية تُعيد الثقة للمواطن أن حقه في المسكن ليس حلمًا بعيد المنال؛ بل واقع تنظمه الدولة وتسهر على عدالته. هذه النقطة تضع حدًا لاحتكار الأراضي في يد قلة، وتفتح المجال أمام شريحة واسعة لتملك أول مسكن لهم. كما أن الشرط الذي يمنع البيع أو الرهن أو أي تصرف في الأرض خلال عشر سنوات؛ باستثناء الرهن لغرض البناء حيث يمثل سياسة مضادة للجمود العقاري. كثير من الأراضي السكنية في المدن الكبرى تحولت إلى "مخازن قيمة" لا تُبنى ولا تُسكن؛ بل تنتظر المضارب المناسب لتباع بأسعار فلكية. هنا تكمن أهمية هذا القيد؛ إذ يُحوّل الأرض من وعاء للادخار والمضاربة إلى مشروع بناء وسكن حقيقي. بل إن استرداد الأرض إذا لم تُبنَ خلال عشر سنوات مع إعادة قيمتها لصاحبها ليشكّل ضغطًا إيجابيًا يحفّز المواطن على اتخاذ قرار البناء بدل التسويف، وهو ما ينعكس مباشرة في دوران عجلة قطاع المقاولات، وازدهار سوق المواد الإنشائية، وتوسيع دائرة التوظيف في المهن الفنية والهندسية. هذه الشروط ليست مجرد أحكام تنظيمية؛ بل هي أدوات لإعادة هندسة النسيج الاجتماعي في الرياض. الأحياء الجديدة الناتجة عن هذه الأراضي ستكون مأهولة فعلًا، وليست مجرد مخططات على الورق. وسيُعاد التوزيع الجغرافي للسكان على نحو أكثر استيعابًا حيث يحصل أبناء الرياض المقيمون فعليًا على فرص سكنية تناسبهم. كذلك، فإن تقييد الأسعار عند 1,500 ريال للمتر يضع سقفًا منطقيًا يحدّ من تضخم أسعار الأراضي، ويتيح لشريحة أوسع دخول السوق. هذا بدوره ينعكس على جودة الحياة، فالمجتمع الذي يجد أفراده سكنًا لائقًا بتكاليف معقولة هو مجتمع أكثر استقرارًا وأقل عرضة للتوترات الاجتماعية. إن نجاح هذه المبادرة لا يقف عند حدود توفير الأراضي، بل يحتاج إلى شبكة من السياسات المساندة.. - البنية التحتية المسبقة: ينبغي أن تُنشأ الطرق والمدارس والمراكز الصحية مع بداية التخطيط حتى لا تبقى الأحياء الجديدة معزولة. - برامج تمويل ميسرة: ربط التمويل بشرط البناء سيحفّز المواطنين على الإسراع في التشييد بدلًا من ترك الأرض خاملة. * آليات رقابة فعالة: المتابعة الدقيقة ستضمن عدم التحايل على الشروط، وتحمي الغاية الأصلية من المشروع. * تشجيع البناء المستدام: من خلال ربط الرخص بمعايير صديقة للبيئة، بما ينسجم مع تطلعات الرياض كمدينة عصرية ضمن رؤية 2030. الواقع يقول إن هذه الشروط لا تعني فقط قطعة أرض تُباع بسعر مناسب؛ بل تعني مشروعًا وطنيًا متكاملًا. إنها توازن بين الفرد الباحث عن الاستقرار، والمجتمع الساعي إلى العدالة، والدولة التي تريد ضبط السوق وتحقيق التنمية. وإذا أُحسن تطبيقها؛ فإنها ستعيد تعريف معنى السكن ليس كجدار وسقف فحسب؛ بل كبنية اجتماعية واقتصادية تنسج خيوط مدينة أكثر سعةً، ومجتمعًا أكثر استقرارًا، وعمرانًا أكثر انسجامًا مع المستقبل. بهذا المعنى، فإن شراء الأرض وفق هذه الضوابط ليس صفقة تجارية عابرة، بل استثمار في الاستقرار الاجتماعي، ورافعة للتنمية العقارية، وتجسيد لرؤية وطنية ترى في السكن حقًا، وفي العدالة قيمة، وفي العمران أفقًا يتسع للجميع. ويبقى القول: إن المواطن عليه مسؤولية كبيرة ويتوجب أن يكون في دائرة الوعي عندما يتفهم حاجته الحقيقية للسكن من خلال هذه المكرمة الكبيرة، وان يتفاعل معها بحس وطني يجعله يتخلص من مصلحته الخاصة لأجل المصلحة العامة، فلا يقدم على هذا الأمر إلا إن كان محتاجًا مستحقًا لا مستثمرًا.