اليقين، أولى الكلمات التي تتبادر إلى الذهن مع المقاطع الأولى لقصيدة «كتاب الحب» القصيدة التي تبدأ بعنوان يثير في المتلقي حب الاستكشاف، فإن تصرح بأن ما تضعه بين يدي القارئ «كتاب حب» يعني أنك قادر على شحذ الخطوات ورسم درب هادئ واضح، يمثل الحب! وهنا، يمكن أن نتوقف ونسائل العنوان والأفكار، هل القصيدة تريد حقًا رسم طريق هادئ؟ العنوان الجذاب، البداية اليقينية! هل الكتاب يعطي الإجابات أم يطرح التساؤلات؟ هل القصيدة تروي الروح العطشى للحب ومعانيه؟ وما الحب الذي تكتبه؟ أعشق القباني لكل النساء أم أنه حب بلقيس الذي أدمى روحه؟ أم قصيدة تغوي كاظم ليقول بعضًا «من كتاب الحب»؟ ومن هذا العنوان وجدليته، يفتح النص يقينًا مرتبط بمشاعر حب مختلفة لدى الشاعر تظهر منذ الأسطر الأولى: ما دمت يا عصفورتي الخضراء حبيبتي إذن.. فإن الله في السماء أكد إيمانه بالأخلاق وربطه بإيمانه بالحب، فالمحب يجد اللذة في الإيمان، ويجد السكينة الداخلية، وتصبح الحياة أجمل في وجود اليقين، والطمأنينة إلى فكرة تنير القلب وتبقي الفؤاد مرتاحًا، هنا الارتباط بين السلام والإله مشروط ببقاء الحبيبة، وهذا يعني عدم الثبات، أي أن حالة اليقين مشروطة بالبقاء، فالحب يعني الإيمان في معادلة غير متكافئة الأطراف، ولكنها تجسد عالم الشاعر اليانع! ما زلت تسألني عن عيد ميلادي سجل لديك إذن.. ما أنت تجهله تاريخ حبك لي.. تاريخ ميلادي «فكتاب الحب» بدأت بتأكيد على وجود خالق للكون، يمثل البداية والنهاية، ويرتبط بالحب، فالمحب يبدأ عمره مع لحظات الحب الأول، وموت قلبه متعلق بانطفاء الشعلة المتقدة، فيذهب الإيمان شتاتًا، إن فكرة كتاب الحب تمثل كتابًا مقدسًا من منظور الشاعر، يبدأ باليقين بالحب والله! وينتقل برحلة تدريجية إلى التساؤل، فهل الإيمان هو الحب؟ نزار قباني، وعلى ديدن الشاعر العربي وعلى خطاه، يحاور المحبوبة في القصيدة ويحدثها عن مشاعره وفضاء الحب من منظور كتابه المقدس، لكن هل فعلا هذا المعنى الذي يريد الشاعر أن يقوله؟ أم أن المحبوبة ستار لذات الشاعر ورحلته من اليقين إلى التساؤل في فهم داخله وعالمه؟ أم المحبوبة تجسيد للحب الإلهي؟ الحب يا حبيبتي قصيدة جميلة مكتوبة على القمر الحب مرسوم على جميع أوراق الشجر .. الحب منقوش على ريش العصافير، وحبات المطر يبدأ بتفسير معنى الحب من منظوره، فهو «قصيدة جميلة مكتوبة على القمر» الحب هنا كلمات ساحرة تحمل بعدًا وجدانيًا يخاطب الروح ويسبر أعماق النفس، وهو «مرسوم على جميع أوراق الشجر» فالحب متمثل في القدرة الإلهية في خلق الكون بدقة، في خلق تفاصيل أوراق الشجر وألوانها الزاهية ودورة حياتها التي تبدأ يانعة وتنتهي ثم تولد من جديد، هذا النظام الدقيق الذي يعطي الكون الثمار والأكسجين هو رسالة حب من الله لمخلوقاته. لذا الحب موجود في كل الكائنات وفي تفاصيل الكون من حولنا «منقوش على ريش العصافير» هذه الريشات الصغيرة التي تحمل الطيور عاليًا لتحلق في فضاء الكون، وبناء أجسادها الذي يتفق وريشها وخفتها، هذا رسالة حب، فالمحب يحلق في سماء المحبوب ثقةً ويقينًا، وأما «حبات المطر» فهي سبيل الحياة، وإنبات الأشجار وأوراقها لذا فالكون كله لو تفكرناه في رسالة فلسفية من قباني هو رسائل من حب الإله لعباده المتفكرين! هنا ينتقل الحب من المعنى الإنساني إلى الرحمة الإلهية، إلى بعد المحبة غير المشروطة التي تمنح الإنسان كل ما يحتاج، وتسخر له الكون من حوله، دون مقابل، هذا الحب الذي يمثل علامات واضحة لو نظر إليها الإنسان لآمن بالخالق وأيقن بالإله. حين أنا سقطت في الحب .. تغيرت تغيرت مملكة الرب صار الدجى ينام في معطفي وتشرق الشمس من الغرب تتغير نظرة الإنسان للعالم من حوله ولنفسه ولله، عند وصوله إلى اليقين بقدرة الخالق، هنا تصبح القوة خليقة الروح، تصدر من الداخل إلى الخارج، لا العكس، فلا تخشى هذه الذات من الدجى بكل ما يحمله من رمزية للخطايا والظلام، فيمتلك الإنسان قدرة على مجابهة كل هذا الظلام وكل عالم الأرض، وتصبح شمسه مختلفة، إن آمن، يمكنها أن تشرق من المغرب إيذانًا بانتهاء العهد، وإنذارًا بقيامة خاصة بمعنى خاص ينقل الإنسان من حال الشتات إلى عالم النور الخاص، فاليقين يصل به إلى النهاية دون أن يخشى شيئًا. يا رب قلبي لم يعد كافيا لأن من أحبها.. تعادل الدنيا فضع بصدري واحدا غيره يكون في مساحة الدنيا وصل الشاعر في رحلة فهم ذاته، وعلاقة الحب بالكون إلى مرحلة عشق لا يمكن معها لقلبه البشري الصغير أن يحمل كل هذا الحب «يا رب قلبي لم يعد كافيا» فقلبه عاجز «لأن من أحبها.. تعادل الدنيا» يحمل المقطع دلالة صوفية للحب الإلهي، هذا الحب العظيم الذي يصل إليه الإنسان بعد رحلة بحث روحية، وتفكر في الكون، هذا الاتحاد الروحي والحب العظيم، الذي يفوق طاقة القلب الإنساني الضئيل أمامها لهذا «فضع بصدري واحدا غيره/ يكون في مساحة الدنيا»؛ ليتسع لهذا الحب غير المحدود، هذا الحلول اللذيذ يثري الروح، ويجعل النور مشرقًا في الداخل، ممتدًا ليملأ الحضور والكون بحالة مستقرة متوهجة. يحمل المقطع دلالة على الدفقة الشعورية الكبيرة التي وصلتها روح الشاعر بعد رحلته في البحث عن ذاته وعن الإله في الكون والموجودات إلى أن وصل لحالة حب صوفية ترتقي بروحه وتجعلها ضياء! لو خرج المارد من قمقمه وقال لي: لبيك دقيقة واحدة لديك تختار فيها كل ما تريده من قطع الياقوت والزمرد لاخترت عينيك.. بلا تردد تصل الروح إلى صوفية الحب وعذوبة استشعار الإله وحضوره في الكون وكل موجوداته، فتصبح النفس زاهدة في الحياة، وبكل الدر الثمين؛ لأنها تعالت عن رغبات الدنيا، وانتقلت إلى حب مختلف، فعرفت سر الكنز الحقيقي، إنه في التخلي عن كل دنيوي والسمو نحو الروح. لو كنت يا صديقتي بمستوى جنوني رميت ما عليك من جواهر وبعت ما لديك من أساور ونمت في عيوني أشكوك للسماء أشكوك للسماء كيف استطعت، كيف، أن تختصري جميع ما في الكون من نساء في هذين المقطعين، يتجاوز الحب كل ما هو دنيوي ونفيس، فالجواهر والأساور تصبح بلا قيمة.