في عالم تتسارع فيه الخطى حتى يكاد الزمن نفسه يعجز عن ملاحقتها، خرج الذكاء الاصطناعي من ظلال الخيال العلمي ليجلس بيننا، كضيف مستمر وناطق باسم العصر، ومهندسا جديدا للمفاهيم، لم يعد الأمر محصورا في تطبيقات الهواتف الذكية أو برمجيات الإنتاج، لكن صرنا نتنفس ذكاءً اصطناعيًا دون أن ندري، صار هو الطبيب الذي يرى داخلنا، والمعلم الذي يرسم خرائط عقولنا، والكاتب الذي يقترح أن يكتب بدلا منا. الذكاء الاصطناعي أصبح فضاء نعيش فيه، وصوتا ينازعنا على الكلمة، وصورة تنافس وجوهنا في التعبير. في المستشفيات، تُشخص الآلة المرض قبل أن يظهر، وفي المصانع تُنجز آلاف المهام في دقائق دون خطأ، وفي الأسواق تراقب سلوك المستهلكين وتُعيد تشكيل رغباتهم في صمت. هذا انتقال في بنية السلطة نفسها، من الإنسان الخبير إلى الخوارزمية الدقيقة. إن هذه "القدرة" الجديدة، وإن كانت مُبهرة، تفتح أبوابا من التوتر. من يملك الخوارزميات، من يبرمجها، وعلى أي أساس أخلاقي تعمل، إذ لا يكفي أن تكون دقيقة، بل يجب أن تكون عادلة، وهذا ما لا تضمنه الأرقام وحدها. حتى التعليم، الذي لطالما اعتبر ضمن فضاء للتفاعل الإنساني، صار يدار بواسطة خوارزميات تراقب أداء الطلاب وتُخصص لهم المحتوى المناسب، لكنها في الوقت نفسه تزرع فيهم ما لا يُقال، أن المعرفة يُمكن تخصيصها مثل الإعلان، وأن التفكير يمكن توقعه. الذكاء الاصطناعي هنا لا يعلم فقط، بل يُشكل طريقة التعلم ذاتها، ويُعيد برمجة الإدراك من الداخل. والأخطر أن هذه الأنظمة تتعلم من بياناتٍ حافلة بالتحيزات، فتُعيد إنتاج التمييز بلغةٍ علمية، وتجعل من الظلم أمرا محايدا، لأن "الآلة قالت". وفي فضاء الفن، حيث كان يُعتقد أن الآلة لا تُبدع، بدأت تُدهشنا لوحات وموسيقى ونصوص كأنها نتاج عبقري متأمل، لكن الحقيقة أكثر قلقا. هل فقد الإبداع معناه حين صار قابلا للتوليد الآلي، هل نعيش زمن الفن بلا فنان، إن ما يُنتج اليوم ليس بديلا عن التعبير الإنساني، بل انعكاسًا لاختفاء معناه. ليس لأن الآلة باتت مبدعة، بل لأن الإنسان نفسه تراجع، وارتضى أن يُترجم حواسه إلى رموز رقمية تُعيد تركيبها الخوارزميات. ورغم كل هذه الإنجازات، هناك صمتٌ خفي يملأ المشهد، ملايين الوظائف تختفي بصمت، والمهارات التي كانت سبب بقاء الطبقات المتوسطة تُستبدل تدريجيًا بأنظمة لا تشكو ولا تُضرب عن العمل. والمجتمع لا يزال يُجمل هذا القلق بكلمات مثل: "التحول الرقمي" و"الكفاءة"، بينما الحقيقة أنه يُعاد توزيع القوة، لا المهارات فقط. هناك استبدال متسارع للقيمة البشرية، يُبرر بأنه من أجل المستقبل، لكن أي مستقبل يُبنى على استبعاد البشر. ثم تأتي الفوضى الكبرى، محتوى متكرر، سطحي، سريع الصنع، يغزو الفضاء الرقمي دون وجه أو توقيع، ويُعيد تدوير الأكاذيب بألف شكل وصوت. صار من السهل أن تُزيف حقيقة، أو تُقنع الملايين بخبر مصنوع، لأن "الآلة كتبته" أو "صممته"، في هذا المناخ، يذوب الفرق بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع، ويصبح الخطر الأكبر ليس في وجود الذكاء الاصطناعي، بل في غياب الذكاء البشري القادر على نقده. لكن وسط هذا الزخم، لا أرى في الذكاء الاصطناعي عدوًا، بل مرآة، إنه يكشف عمّا نحن عليه، لا ما هو عليه، فإذا كنا قد صنعناه ليُشبهنا، فعيوبه ليست إلا نسخًا رقمية من تحيزاتنا، وطموحاتنا، وأحيانا من قسوتنا، لذلك فإن معركتنا معه ليست تكنولوجية، بل أخلاقية، معرفية، سياسية، لا يكفي أن نُبرمج آلة تُفكر، بل يجب أن نُعيد التفكير في من يبرمجها ولماذا. إن الذكاء الاصطناعي لن يُنقذ العالم، ولن يدمره، بل سيفعل ما نسمح له بفعله، نحن من نُحدد حدوده، أو نُطلقه بلا ضابط. ولذلك، يجب أن نُعلّم الأجيال القادمة أن التكنولوجيا لا تُفكر بدلًا عنهم، بل تُضيء الطريق فقط، وأن الذكاء ليس في الآلة، بل في من يُقرر كيف يستخدمها، ولماذا، ومتى يتوقف. في النهاية، ليست المسألة في "ماذا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يفعل"، بل في "ما الذي يجب أن نسمح له بفعله، هذه ليست مسألة تقنية، بل سؤال وجود. سؤال يخص الإنسان، بكل ضعفه وشكّه ووعيه، وما دمنا نمتلك القدرة على طرح هذا السؤال، فنحن لم نفقد السيطرة بعد.