السعودية.. الجُرأة السياسية    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    برعاية ولي العهد.. 600 خبير في ملتقى الرياض لمكافحة الفساد    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    تفاصيل صادمة ل«طفل شبرا».. شُقَّ صدره وانتُزعت عيناه وقلبه لبيعها    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    برئاسة آل الشيخ.. إحالة تقارير ومقترحات ل«الشورى»    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    المجرشي يودع حياة العزوبية    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    القضية المركزية    القبض على مروج إمفيتامين مخدر    وزير الدفاع يبحث مع نظيره البوركيني التطورات    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    صندوق البيئة يطلق برنامج الحوافز والمنح    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    تقويم لائحة الوظائف والنظر في المسارات والفصول الثلاثة.. ماذا تم..؟    ثلاثة آلاف ساعة تطوعية بجمعية الصم بالشرقية    أمير الرياض يحضر افتتاح مؤتمر «المروية العربية»    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    الذكاء الصناعي ركيزة في الرؤية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    شاركني مشاكلك وسنبحث معاً عن الحلول    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    باسم يحتفل بعقد قرانه    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    60 طالباً وطالبة يوثقون موسم «الجاكرندا» في «شارع الفن» بأبها    أبها تستضيف أول ملتقى تدريبي للطلاب المشاركين في برنامج الفورمولا 1 في المدارس    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    يوفنتوس يتعادل مع روما في الدوري الإيطالي    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    مهرجان الحريد    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرياض وباريس.. رحلة المسافات الطويلة إلى علاقات أزلية
وثيقة تقدير حررها السفير الفرنسي بجدة عام 68 رداً على تحية «المدينة» لفرنسا

مشهد العلاقات الرائعة بين المملكة وفرنسا تعيده للاذهان رسالة شكر دافئة أرسلها في الثاني والعشرين من شهر رجب عام 1388ه الموافق الرابع عشر من أكتوبر عام 1968ه سفير الجمهورية الفرنسية في جدة في ذلك الوقت جورج دي بواتيه إلى مدير عام مؤسسة المدينة الأستاذ عبدالله القصبي، لخصت هذه الرسالة سنوات طويلة من التعاون والتفاهم والصداقة بين فرنسا والمملكة، واستعادت تاريخًا حضاريًا مميزًا، وكتبت بمداد هو فيض من المشاعر الأخوية بكل ما تحمل من قيم مشتركة ونبل متدفق، أعادت الرسالة التأكيد على أن الشعب الفرنسي عبر تاريخه الطويل كان دومًا مشعلاً للحرية ومنبرًا للدعوة للسلام العالمي وحصنًا للمحافظة على حقوق الانسان، ورأت أن فرنسا تقوم بواجباتها الدولية والانسانية والحضارية بدفاعها عن حقوق العرب واراضيهم التى اغتصبت نتيجة لتفوق سلاح المعتدين، ونوهت الرسالة بالعلاقات المتميزة والروابط الوثيقة والمشاعر الأخوية التى طالما جمعت فرنسا بالمملكة وبالعرب، وتمنت للمملكة وشعبها الأصيل العزة والنجاح تحت قيادة الرائد الحكيم الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-. و جاءت الرسالة الرقيقة كرد على الافتتاحية التى كتبها الأستاذ القصبي بعنوان «تحية لفرنسا» في الثامن عشر من رجب عام 1388 ه الموافق 10/10/1968م، بعد يومين من إلقاء وزير الخارجية الفرنسي السيد ميشيل دوبريه لبيان بلاده في الدورة الثانية والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة والذي استنكر فيه العدوان الاسرائيلي على الأراضى العربية وأكد ضرورة الانسحاب منها كشرط يسبق أي بحث في الشروط الأخرى، وفي الافتتاحية وجه السيد القصبي تحيته الحارة للموقف الفرنسي، ولتصريحات سابقة لديجول أوضح فيها ان اسرائيل عضو غريب يلفظه الجسم العربي ليس له مقومات للبقاء وأكد على إصرار فرنسا عدم تزويد إسرائيل بالسلاح، وقال القصبي: إن بسبب هذا الموقف النبيل خاضت فرنسا معارك داخلية وتعرض اقتصادها لهزات عنيفة تمثل في توقف المصانع والمواصلات بسبب الضغط الصهيوني عليها، وجاءت إشادة القصبي أيضًا من منطلق تمسك فرنسا بموقفها الصلب الواضح رغم تخلي بعض الاصدقاء عن العرب ومنهم الولايات المتحدة وحتى المعسكر الشرقي، وقال إن هذا الموقف الفرنسي الداعم للقضية الفلسطنية والمؤيد للعرب سيظل خالدًا خلود عدالة القضية وخلود الحق العربي بالرغم من عدم وجود مصالح عقائدية لباريس في المنطقة، ورأى القصبي في تصريحات ومواقف ديجول المساندة للحق العربي قلبًا للمقاييس التقليدية للسياسة الدولية من معايير المصالح إلى الارتباط بالقيم الإنسانية والحضارية، الأمر الذى يشكل مرحلة مهمة من مراحل التطور في النضج السياسي للبشرية.
كما أسلفنا، أوجزت هذه الافتتاحية والرد الفرنسي عليها معايير الارتباط الوثيق بين المملكة وفرنسا، لأنها حددت الأسس الصلبة التي ترتكز عليه البلدان الكبيران وهو العدل ودفع الاستقرار ومواجهة الظلم وهي قيم إنسانية وحضارية ودينية تهدف لرقي الإنسان وتقدمه، وبعد سنوات طويلة من البيان الفرنسي، وافتتاحية المدينة التي أبرزت الرؤية السعودية، والرد الرقيق للسفير الفرنسي عليها، وبعد عقود من العمل السياسي المشترك بين البلدين الصديقين يمكن بكل ارتياح وصف العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين المملكة وفرنسا بأنها نموذج للعلاقات ذات الجذور الراسخة والمتينة، التي نشأت على الاحترام المتبادل، وعلى الثقة، وعلى أسس تحترم القيم الانسانية والحضارية، كل ذلك يساعد وسيساعد بلا شك على تحقيق المصالح المشتركة للشعبين السعودي والفرنسي بالشكل الأميز، ويعزز هذه العلاقات التفاهم المشترك بين القيادتين السعودية والفرنسية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- والرئيس الفرنسي أولاند يدفع باستمرار هذه العلاقات إلى المزيد من التطور والتقدم.
يجمع المراقبون على متانة العلاقات السعودية الفرنسية في شتى المجالات وتجذرها في التاريخ وامتدادها الاستراتيجى عبر الزمان وارتكازها على الصداقة والشفاقية والقواسم المشتركة والمصالح والمنافع المتبادلة والسعي الدائم إلى خلق عالم تقوم مؤسساته ومنظماته على إعلاء قيم العدل والحق والسلم الدولي ونصرة المظلوم وردع الظالم.. والعلاقات السعودية - الفرنسية امتحنت أكثر من مرة في أوقات الشدة فنجحت لصدق القيادات وعمق علاقات البلدين والشعبين.
علاقة بناءة
إن الإبحار في ذاكرة التاريخ يكشف عن أبعاد العلاقات السعودية الفرنسية وتمظهراتها وعن الروابط والوشائج التاريخية والثقة واعتبارات الصداقة التي تشكل الأساس للتعاون والتفاهم وإنجاز الأهداف المشتركة في عالم متغير يضطرب أحيانًا ويصفو حينًا آخر ويحتاج إلى الحنكة السياسية وحصافة القيادة وحكمتها وهذا ما توفر على مر السنوات للمملكة وفرنسا..
لقد كانت علاقة المملكة العربية السعودية بالجمهورية الفرنسية دائمًا من هذا النوع البناء المتفهم لحاجة المجتمعات الإنسانية إلى الاستقرار والسلام والتنمية، وخاصة في داخل نطاق الإقليم العربي، وارتبطت مواقف البلدين الصديقين بالسعى في هذا الاتجاه، فانفتحت آفاق التعاون والبناء، وتوالت اللحظات التاريخية الحاسمة التى تجلت فيها وقوف المملكة والدول العربية في صف واحد مع القيادة الفرنسية دفاعًا عن إقيم إنسانية وقضايا سياسية عادلة وانتقادًا لمفهوم البطش والصلف والاستهتار بحقوق الإنسان الذي تبنته وتتبناه إسرائيل على سبيل المثال في الأراضى الفلسطينية المحتلة، وقبل نحو خمسين عامًا عندما التقى الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- والرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول أشرفا على توقيع اتفاق التعاون ما بين البلدين، كان الوقت قد حان آنذاك لكل من المملكة العربية السعودية وفرنسا للوصول إلى تعاون سياسي واقتصادي وثقافي أفضل ولأن تخرج الأفكار وتصريحات النوايا من طور»الأقوال» إلى قوة «الأفعال» وأن تعطي مضمونًا قويًا وتفعلًا بشكل أكثر تركيزًا، لم يكن لقاء الزعيمين الكبيرين في منتصف الستينات من القرن الماضي حدثًا عاديًا، بل كان اجتماعًا استثنائيًا وتاريخيًا بكل المقاييس، وضع تصورًا واضحًا لانطلاقة قوية للعلاقات المتينة بين المملكة وفرنسا، حيث أولت الجمهورية الفنرسية الخامسة بعد هذا اللقاء اهتمامًا كبيرًا بالقضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين، قضية العرب الأولى، وأظهرت باريس تعاونًا كبيرًا مع الجانب العربي في الكثير من الأمور المتعلقة بهذه القضية والقضايا العربية الأخرى، ومع تطور العلاقات سجلت الشراكة الإستراتيجية السعودية الفرنسية، التي أطلقت بعد ذلك في العام 1986 تقدمًا مهمًا في جوانب سياسية واقتصادية عدة.
ديجول ينحاز للحق العربي بحنكة الفيصل
يقول المعاصرون للرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول إنه يغيّر مواقفه إذا عرف الحقيقة واتضح هذا عندما التقى الملك فيصل -طيب الله ثراه- إذ ابتدر ديغول الحديث قائلاً: يتحدث الناس بلهجة متعالية أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر، إسرائيل هذه أصبحت أمرًا واقعًا، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع، فأجابه فيصل: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك، إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمرًا واقعًا، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت مع الجيش الإنجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلّبتَ عليه، وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس، كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حربًا عالمية ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ، فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع، والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتلّه القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعًا فقد أصبح مشروعًا، فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل وقال: يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك، قال فيصل: فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك، لأنك رجل متدين مؤمن بدينك، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس، أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر غزاة فاتحين، حرّقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول: إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون، وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنجلترا أيضًا؟ ونحن العرب أمضينا200 سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها، وهذا مثال تاريخي أيضًا. قال ديغول: ولكنهم يقولون: في فلسطين وُلِد أبوهم، قال الملك فيصل: غريب!! عندك الآن مائة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟!. هنالك، سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعيًا بومبيدو، وكان جالسًا مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج، وقال له: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل، وهكذا قُطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1967 قبل الهجوم على مصر بأربعة أيام.
تحية لفرنسا
عبدالله القصبي
البيان الذي ألقاه مسيو ميشيل دوبريه وزير الخارجية الفرنسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل يومين كان واضحًا كل الوضوح. ففي حديثه عن الشرق الأوسط استنكر مسيو دوبريه العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية، وأكد ضرورة الانسحاب عنها كشرط يسبق أي بحث في الشروط الأخرى، كما استبعد احتمال المفاوضات المباشرة.
وقبل أسبوعين تناقلت بعض الصحف العربية، والفرنسية، ووكالات الأنباء تصريحات نُسبت للرئيس (ديجول) أوضح فيها أن إسرائيل عضو غريب يلفظه الجسم العربي، وأن ليس لهذا العضو أيّ من مقومات البقاء، وأكد إصرار فرنسا على عدم تزويد إسرائيل بالأسلحة.
ومنذ عدوان يونيو 1967 كانت فرنسا أقوى الأصوات التي ترتفع بإدانة إسرائيل، وتشجب عدوانها، وهي التي أعلنت حظر بيعها الأسلحة حتى طائرات «الميراج» التي تم الارتباط عليها قبل العدوان. واستمرار السياسة الفرنسية على هذا الخط المستقيم الواضح لصالح الجانب العربي منذ أيام العدوان حتى خطاب دوبريه في الجمعية العامة، وهذه المواقف الرائعة للرئيس الفرنسي قد شدّتني للكتابة فوجدت نفسي أمسك بالقلم لأحيّي فرنسا.. تحية حارة.. تحية صادقة محوطة بالإجلال والإكبار والاحترام.
فبسبب هذا الموقف وخلال الشهور الماضية خاضت فرنسا معارك اجتماعية واقتصادية كبيرة.. وتعرّضت لهزات محلية عنيفة كادت تودي بالاقتصاد الفرنسي والفرنك الفرنسي معه.. ومارست الصهيونية العالمية ضغوطاً شتّى في كل المجالات وبخاصة مجالات العمال والطلبة.. واستطاع أعداء فرنسا أن يلهبوا النار فأُغلقت المصانع ودور العلم، وشُلّت المواصلات، وتعرّضت السياسة الفرنسية لنقد لاذع مر من معظم أجهزة الإعلام العالمية.. وخاصة الصحافة. وكان واضحًا أن الموقف الفرنسي تجاه مشكلة الشرق الأوسط كان وراء كل ذلك.
وعند تقييم الموقف الفرنسي في ضوء مواقف الدول الكبرى ومنها تلك الدول التي تربطنا معها مصالح تقليدية كبيرة يمكن الإلمام بالقيمة الحقيقية العظيمة للسياسة الفرنسية المعاصرة تجاه أخطر قضايانا المصيرية.
أن لنا نحن العرب مصالح تقليدية اقتصادية واجتماعية تربطنا بالولايات المتحدة والشعب الأمريكي..
أن كلينا يشترك في خط دفاع واحد أمام «الشيوعية الدولية» التي تغلغلت في الشرق الأوسط، وبخاصة بعد العدوان.. ومع ذلك فقد تخلّى عنا هؤلاء الأصدقاء وذاب الجليد.. ودخل المرشحون للرئاسة الأمريكية في مزايدات علنية لكسب ود إسرائيل.. وتباروا في اختصار الزمن لتقديم طائرات «الفانتوم» إليها حتى أصدر الرئيس جونسون بناء على توصية الكونجرس أمره ببيع العدو هذا السلاح الخطير، كما نقلت أنباء أمس.. وفي خطاب الرئيس جونسون في الاجتماع السنوي الأخير لجمعية «بناي بريث» الصهيونية تصريحات خطيرة مرة.. تدعو إلى الاعتراف بإسرائيل وإعطائها حق المرور في الممرات المائية العربية، وتعهد بتزويدها بالأسلحة بحجة حفظ التوازن.. كما يقول.
وفي الجانب الآخر احتضن المعسكر الشرقي قرار مجلس الأمن الذي فرض على العرب في أحرج ساعات هزيمتهم، وأعطى العدو معظم مطالبه.
ووسط هذا الامتهان للحق العربي، وفي هذا الطريق المسدود للقضية الفلسطينية، وبين تلك القوى الجبارة وقفت فرنسا هذا الموقف القوي الواضح.وتميّزت السياسة الفرنسية بهذا الاتجاه السليم عن كل الاتجاهات التي سلكتها الدول الكبرى شرقيها وغربيها، وانفردت بذلك انفرادًا سيظل خالدًا خلود عدالة القضية. وإلى هذا الموقف الجليل تتطلع كل شعوب المنطقة والشعوب المحبّة للسلام في العالم بالإجلال والتقدير.. وسيظل المسلمون، وسيظل العرب يقدمون هذا المعيار على كل المعايير التي يقيسون بها علاقاتهم الخارجية.. الاقتصادية والسياسية.. والدولية:
ويرقى هذا الموقف إلى درجة كبيرة من الأهمية؛ لأنه يصدر عن فرنسا صانعة «الميراج» غالبية السلاح الجوي للعدو، والدولة الأوروبية الوحيدة التي تملك القنابل الذرية والهيدروجينية، والمعيار الثقيل في كفة السوق الأوروبية المشتركة قصارى من إسرائيل.. وتزداد هذه الأهمية إذا تذكرنا أن السياسة الإعلامية العربية قد دهورت الحق العربي إلى الحضيض.. كما صورتنا نحن العرب أمام الرأي العام العالمي بأبشع الصور. صوّرتنا أمة ليس لها حضارة ولا قيم.. تريد أن تقذف باليم جموعًا من البشر فيها الأطفال والنساء.. وأن تصحيح هذه الصورة بأيدينا يحتاج إلى جهود كبيرة، كبيرة جدا وزمن طويل ومجيء هذا التصحيح على يد قوية كيد الرئيس ديجول، ومن أمة عريقة في الحرية كفرنسا قد شد أذهان الرأي العام العالمي إلى الصورة الحقيقية للقضية.. إلى الحق العربي.. إلى جانب ما فعله أصدقاؤنا الآخرون في الدول الإسلامية. وفرنسا ليست طرفاً بالقضية كالدول الإسلامية والعربية، وليست لها مصالح عقائدية كما لدول المعسكر الشرقي.. ولها سابق علاقات طيبة مع إسرائيل.. وهذه كلها تزيد في قيمة الموقف الفرنسي الحاضر.. وترفع من شأنه..
وإذا تذكرنا أن هذا الموقف الفرنسي كان سندًا لقضيتنا منذ أيام العدوان وظل يزداد وضوحًا وقوةً قبل أن تعقد الجمعية العامة دورتها الثانية والعشرين الحالية.. أخطر الدورات بالنسبة لقضيتنا.. بل وارتفع خلالها.. وتذكرنا أيضًا أن إسرائيل قد حشدت خلال هذه الفترة التي تلت العدوان كل القوى السياسية والإعلامية للضغط على الرأي العام الدولي لتمزيق قراراته السابقة.. والتمويه على الرأي العام العالمي.. إذا تذكرنا ذلك أمكنا الاقتراب من القيمة التاريخية الكبرى للموقف الفرنسي.
لقد استطاع الرئيس ديجول أن يقلب المقاييس التقليدية للسياسة الدولية من معايير ومقاييس للمصالح والمنافع إلى الارتباط بالقيم الإنسانية والحضارية، وما أشك أن التاريخ الحديث سيسجل بالإجلال والإكبار هذه المعايير الجديدة للسياسة الفرنسية.. هذه المعايير والأسس التي تأتي فيها المصالح المحلية والإقليمية دون القيم العامة والمصالح الإنسانية.. وسيعتبر هذا المنهج السياسي الجديد مرحلة من مراحل التطور في النضج السياسي للبشرية.. وما أشك أن تاريخنا المعاصر سيسجل لفرنسا هذا السبق الحضاري في تقييم الأسس التي تبنى عليها السياسة الدولية والعلاقات الإنسانية.
مرة أخرى تحية لفرنسا.. تحية لجمهوريتها الخامسة.. تحية للرئيس ديجول.

المزيد من الصور :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.