الناقد الكبيرد. جابر عصفور واحد من ألمع الأسماء النقدية في العالم العربي منذ عشرين عاماً على الأقل. يرتكز مشروعه النقدي على مواكبة أحدث التيارات ترجمة لها أو تأصيلاً في ثقافتنا العربية. وبالموازاة متابعة القضايا الثقافية الكبيرة التي تشغل واقعنا العربي الراهن. ومن الإنجازات المهمة إسهامه في تأسيس إحدى المجلات الثقافية العريقة وهي مجلة «فصول» منذ عشرين عاماً وكان رئيساً لتحريرها حتى وقت قريب. ومنذ عشر سنوات تقريباً تولى جابر عصفور منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وبمقتضاه أصبح مشرفاً على مجموعة من اللجان الثقافية المتخصصة وعلى جوائز الدولة التي تمنح كل عام لكبار المثقفين وعلى مشروع قومي للترجمة وأنشطة أخرى كثيرة أحيت هذه المؤسسة العريقة وأثارت العديد من المعارك معها أيضاً. لعل هذه الملامح العامة تكشف ما يتحلى به الدكتور جابر عصفور من حنكة إدارية وتميز علمي في الوقت نفسه، ومؤخراً عقد اتحاد كتاب مصر لقاء مفتوحاً مع الدكتور جابر عصفور الناقد والمثقف اتسم بالجدية وسخونة الأسئلة وحضور الذاكرة. وعن أسباب تمسكه بمصطلح التنوير وما يستتبعه من قيم، ذكر عصفور إن الهدف إيقاظ الذاكرة والدفاع عن القيم التي صنعت تراثنا الثقافي، وهي قيم الحرية والعقلانية والتقدم. وضرب مثلاً بأنه اكتشف في الأضابير المهملة أن الدكتور طه حسين قام بزيارة إلى المملكة العربية السعودية في عام 1955 موفداً من قبل اللجنة الثقافية العربية، وهناك احتفلت به المملكة احتفالاً لم يحدث من قبل لأي كاتب أو مفكر، عربي أو عالمي. وفي الحفل الختامي الذي أقامته الجالية المصرية بالمملكة انتدب أحد المدرسين المصريين نفسه وألقى في مدح طه حسين واتجاهه التحديثي، وهذا المدرس هو الشيخ محمد متولي الشعراوي. أزمة النقد وعلى الناقد كما يقول عصفور أن يلتزم موقفاً متقدماً من الحياة، ويمارس الكتابة عن نظريات الأدب أو عن الأعمال الإبداعية إنطلاقاً من هذا الموقف المتقدم. وفيما يتعلق بوجود نظرية نقد عربية، نفى جابر عصفور وجود مثل هذه النظرية، ووصف من يروجون لها بأنهم في النهاية يستعيرون النظريات الغربية مع تزيينها مثلما تزين «التورتة» بحبات الكرز. وقال إن النماذج العربية التي أصبح لها صوت في النقد العالمي لم تطرح نظرية نقدية «عربية» وإنما طرحت إضافة نوعية فيما هو قائم من نظريات على سبيل المثال إسهام إدوار سعيد وإيهاب حسن وغيرهما. وفي سياق حديثه عن أزمة النقد العربي حالياً لخص عصفور رؤيته في مجموعة من الملاحظات الأولية منها أن أصحاب الإسهام النقدي البارز في النقد العالمي الآن أتوا من الهامش أي من خارج المركزية الأوروبية الأمريكية وعلى رأس هؤلاء هومي بابا وإقبال أحمد وإدوار سعيد وغيرهم. بما يعني أن خريطة النقد العالمي لم تعد مرتبطة بشخصيات تخرج من المركز. الملاحظة الثانية: أن التيارات النقدية بما فيها البنيوية لم تعد تتحدث عن عمل أدبي منغلق ومكتف بنفسه في نوع من العزلة الشكلية بعيداً عن الواقع المحيط به. كما تحدث عصفور عن دور التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة في إقامة حوار بين النقاد في مختلف أنحاء العالم وتقريب المسافات بين النظريات النقدية المختلفة. ووصف حاضر النقد الأدبي بأنه ثراء في الخارج وفقر في الداخل. وعن عوامل هذا «الفقر» في ثقافتنا العربية قال عصفور: إنه من الصعب أن نتحدث عن حضور عميق لمدرسة نقدية على مستوى العالم العربي، وأعني حضور الإسهام الذي لا يكتفي بنقل مبادئ هذه النظرية أو تلك. وضرب مثلاً بالدكتور رشاد رشدي الذي أصدر أواخر الخمسينيات كتابه «ما هو الأدب» ورد عليه بمقالة مهمة الدكتور محمد غنيمي هلال تكشف عن أن الكتاب اعتمد على مرحلة مبكرة فقط من فكر إليوت النقدي دون استيعاب كامل لأفكاره وتحولاته، وكان يفترض أن يأخذ رشاد رشدي نقد إليوت كلية ويضعه موضع المساءلة بما يضيف إليه عمقاً أكبر. ولو طبقنا هذا المعيار سيكون الناقد «الناقد» أندر من عود الكبريت الأحمر. وأرجع عوامل الفقر «النقدي» إلى غياب الأسس الفلسفية التي يرتكز عليها النقاد، فالعلاقة بين النقد الأدبي والفلسفة في بلادنا علاقة إنفصال، رغم أن الفكر النقدي عادة يزدهر بازدهار الفلسفة وهذا ما نشهده باستقراء العصور المختلفة. ولا يوجد مذهب نقدي إلا وله أسس فلسفية عميقة يعيها الناقد. من ناحية أخرى يفتقد النقد الأدبي إلى العمل الجماعي المتآزر، ربما لغياب الديمقراطية وغلبة النزعة الفردية، وبالتالي يبقى الجهد النقدي رهن إسهامات أفراد استثنائيين أمثال المرحوم شكري عياد والدكتور مصطفى ناصف. مداخلات بعد ساعتين من الحديث المتواصل جاءت مجموعة من المداخلات طرحها عدد من المثقفين والأدباء من بينهم حلمي سالم ويسري خميس وحنفي كساب وعفاف عبدالمعطي وعبدالعال الحمامصي وغيرهم. وتراوحت الأسئلة ما بين مهام المجلس الأعلى للثقافة خاصة فيما يتعلق بجوائز الدولة وما بين رؤى الدكتور جابر كمثقف وناقد كبير يتسم حديثه بكثير من الجرأة والوضوح والحسم. ومن بين التساؤلات التي طرحت افتقاد المعارك الأدبية لقيمتها وما يشوبها من عنف وتشويه. ورداً على هذا التساؤل أجاب عصفور بأن المعارك الثقافية حالياً يشوبها بالفعل كثير من العنف ولا تتسم بالعمق ولا تدور حول قضايا كبيرة، على حين كانت المعارك الثقافية قديماً أكثر عمقاً وأقل عنفاً وضرب مثلاً بعدد من المعارك مثل المعركة حول كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق، وأيضاً معركة «اللاتين والساكسون» حول تأثير الثقافتين الفرنسية والانجليزية على الثقافة العربية. وأكد عصفور على أن هذه المعارك استمرت إلى ما بعد الخمسينيات من القرن العشرين بقوة دفع الليبرالية الأولى. ومع ذلك فهذه المعارك لم تخل كما يتصور البعض من الأهواء والتحيزات السياسية واللغة البذيئة في بعض الأحيان على سبيل المثال كتاب «على السفود» لمصطفى صادق الرافعي.