مع تعدد المنصات وتفتت المعاني، لم يعد السؤال عن "ما يُقال" هو الأهم، بل "كيف يتم تلقّيه وفهمه " و"من يملك صلاحية التأويل" ما يُقال اليوم في تغريدة قد يُفسَّر غدًا كبيان سياسي، أو يُعاد تأطيره كتهديد اقتصادي، أو تذوب دلالته الأصيلة وتستحيل ثقافة شعبوية متباينة الأطراف يصعب جمعها تحت سياق هل ما زال لدينا سياق يُحتكم إليه؟ أم أن المنصات الرقمية ألغت المرجعيات؟ إن انهيار السياق يشير بدقة إلى فقدان الرسائل لمعناها الأصلي عندما تصل إلى جماهير متباينة في ذات الوقت، ما يُقال في دائرة خاصة قد يُفهم بطريقة أخرى عندما ينتشر في فضاء عام، ومع توسع استخدام المنصات الرقمية، أصبح هذا الانهيار أكثر وضوحًا، لأن المنصات الرقمية تجمع بين ما كان منفصلًا: الخاص والعام، المهني والشخصي، الاجتماعي والمؤسسي... ويعد السياق هو الإطار الذي يحدد رمزية الكلام، ويحتاج الجمهور هذا الإطار لفهم بعضهم البعض في فضاء معين، أما المجال العام فهو الفضاء الذي يناقش فيه المجتمع قضاياه وهمومه المشتركة.. تاريخيًا كان هذا المجال كان واضحًا ومحددًا: مقهى أو صحيفة أو ندوة، لكل منها جمهوره وحدوده التي يقل فيها مستوى سوء الفهم والتأويل الخاطئ، ويعتبر فيها إعادة الترميم يسيرًا ومتاحًا وقابل للتفهم والتجاوز بلا خسائر.. لكن فيما يخص المنصات الرقمية فقد دمجت هذه العوالم الأشخاص والمواضيع والحوادث والمعاني، فجعلت الرسائل تُقرأ بطرق متعددة خارج دلالاتها الأصيلة. وقد ظهر ذلك بوضوح في المقاطعات السعودية في آخر الأيام، والتي تعد مقاطعات فورية قوية لا يمكن تجاهل أصدائها وتبعاتها على الصعيد المجتمعي والرقمي والمؤسساتي للطرف الآخر، يظل إلحاحها حيويًا إلى أن تخمدها حلول صريحة واضحة.. وتظهر المقاطعة المجتمعية لمطعم شهير وعلامة تجارية للشاورما كنموذج متسيد للمنصات حاليًا والتي تسبّب بها فصل موظف سعودي حسب المعطيات المنشورة عن الحادثة، فكانت الأسباب في أصلها إدارية محلية، لكن وجودها في الفضاء الرقمي أمام جماهير متباينة قد حوّلها إلى قضية عامة وإلى ثقافة لها أرضيتها المشتركة... بعض المستخدمين اعتبر الحادثة تضامنًا إنسانيًا، بينما قرأها البعض كقضية كرامة وطنية وعدالة مواطنة ينبغي استردادها والانتصار لها، بينما تعاملت المؤسسة معها من زاوية مغايرة في بادئ الأمر، ثم من عدة زوايا يراها المتلقي الرقمي متخبطة بعض الشيء بين الصمت والمحاججة والاستفزاز، والرضوخ والتراضي، وهذه التعددية المتغايرة في القراءات جعلت الرسائل تفقد سياقها الأصلي وأدت إلى انهيار السياق بين ما كان وبين ما أصبح الوضع عليه وبين محاولات الترميم التي لم تتفق مع الثقافة المجتمعية للحادثة! يورغن هابرماس يرى أن المجال العام يقوم على الحوار المتكافئ بين الأفراد ويرمي إلى موازنة لها ثقلها المجتمعي والمؤسسي، لكن في هذه الحالة لم يحدث حوار متوازن، بل تباينت اللغات: لغة المواطنين في مقابل لغة المؤسسة، وهنا يمكن الاستدلال على انهيار السياق وفقًا ل Joshua Meyrowitz الذي يرى أن هذا الانهيار يغير طريقة استقبال الرسائل بمجرد انتقالها إلى جمهور متنوع كما هو الحال مع جمهور البيئة الرقمية.. النتائج لم تقتصر على النقاش المسالم بل تحول إلى ثقافة مجتمعية أدت إلى شيوع الممارسات الإلغائية التي تنعكس على المبيعات وتؤدي إلى إغلاق بعض الفروع، باعتبار الحادثة قضية هوية ووطنية تتخذ سلوكًا جماعيًا صارمًا، يجعل الجمهور الرقمي يصيغ الخطاب ويحدد الرسائل ويوجهها ولم يعد الأمر يقتصر على المؤسسات الإعلامية.. هذه الظاهرة لا تتعلق بذلك المطعم ، بل تعكس تحولات أوسع في طبيعة المجال العام اليوم، ومع توسع الشبكات الاجتماعية وما يحدث فيها مقابل التعددية في التلقي والتأويل، يظل السؤال قائمًا: هل يمكن بناء سياق مشترك يحافظ على المعنى بدلالته الأصيلة، أم أن انهيار السياق أصبح سمة ثابتة للحوار العام في العصر الرقمي؟ خاصةً وأن تعريف الوطنية، والانتماء، والعدالة المجتمعية والتأطير وتوجيه الرسائل وحتى العلاقة مع العلامات التجارية، لم يعد حكرًا على المؤسسات أو الإعلام، بل أصبح يُعاد تشكيله من خلال ممارسات يومية مثل المقاطعة أو الدفاع والحث والتعزيز والمناصرة، ومن خلال الفضاء الرقمي الذي يمنح هذه الممارسات صوتًا وثقلًا وانتشار. وهنا يبرز سؤال آخر: هل يمكننا فعلًا تصحيح الرسائل في ظل هذا التباين المتضخم للجماهير؟ أم أن أي محاولة للتصحيح من جانب المؤسسات تتحول إلى مجازفة غير مضمونة، أشبه بضَربة حظ، أمام جمهور رقمي بات نسقًا قائمًا بذاته، يملك ثقله، ويعيد إنتاج السياقات وفق منطقه الخاص، قادرًا في لحظة على تقويض أي محاولة للحد من صلاحياته في الفضاء العام؟ يكاد يكون منع الانهيار مستحيلًا في البيئة الرقمية، ولا تكمن المشكلة فيه بقدر فهم كيف ولماذا يحدث هذا الانهيار، واستخدام التجارب السابقة كأدوات لإدارة الخطاب بدل تركه ينفلت بلا مرجعية.. إن الاستفادة الحقيقية من هذه السياقات المنهارة تكمن في تحويلها إلى نماذج نتعلم منها لتصحيح الرسائل مستقبلًا، وكيف نخاطب هذه الجماهير ونصل إلى أرضية مشتركة بأقل الخسائر. *عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز