لُقى الحاوية وهو يفتش مع الفجر حاوية القمامة في أحد الأحياء الغربية، كان يفكر دائماً أنه لا بد أن يعثر يوماً ما على شيء ثمين... خاتم أو عقد أو سوار أو حتى حقيبة صغيرة متروسة بأوراق نقدية. مرت أكثر من عشرين سنة. هو بالطبع لم يعثر على شيء مما حلم به. لكنه ذات فجر عثر على علبة صغيرة أنيقة، فتحها فوجد فيها خصلة شَعر وزهرة حمراء ورسالة مكتوبة بخط جميل. قرأ: حبيبتي... حين تصل إليك رسالتي سأكون ميتاً. فكر في الأمر وقلّبه جيداً. هل وصلت رسالته وألقت بها في الحاوية؟ ماذا حل بالشاب؟ هل حقاً مات؟ وضع العلبة في كيسه ومضى. حين عاد إلى البيت أخذت زوجته كعادتها تفتش اللقى التي عثر عليها. فتحت العلبة وفوجئت مثله. سألته فجأة: من أين لك هذه العلبة؟ قال بشرود: من الحاوية. قالت باهتمام: كيف؟ أعني لماذا وضعها الشاب في الحاوية ولم يرسلها إلى فتاته؟ قال منتبهاً: هل تظنينه فعل ذلك؟ لا لا لا أظن، فهو يدرك أن فتاته لا تفتش الحاويات مثلنا. قالت كمن عثر على السر: ألا تظن أنه ربما فكر في رجل مثلك يعثر عليها ويوصلها إلى الفتاة؟ قال ضاحكاً: وكيف سيعرف رجل مثلي من هي الفتاة؟ احتارت المرأة وازدادت حركتها في الغرفة وقد نسيت اللقى كلها وأمسكت بالعلبة كمن يمسك خيطاً رفيعاً بين إصبعين. فجأة صاحت: هل تعرف من هو الأحمق أو ربما القاتل فيما لو مات الشاب؟ قال بانتباه: من؟ قالت مندفعة: هذا الكاتب الذي تركنا مشغولين بأمر هذه العلبة، ولم نفكر حتى في كأس شاي ورغيف خبز في هذا الصباح... ألست جائعاً؟ رجل حزين واحد لم تبع الصغيرة في المقهى المكتظ سوى زهرة واحدة، وخرجت. الرجل الذي اشترى الزهرة كان وحيداً، والأكثر حزنا بين الآخرين. التقط صورة بهاتفه للزهرة، وأرسل الصورة إلى حاسوبه أمامه، ثم أرسلها إلى حيث لا يعلم أحد سواه. الصغيرة كانت في تلك اللحظة تهم بدخول مقهى آخر، وتتمنى أن يكون الوحيدون والمحزونون في الداخل أكثر.. اغتيال فكرتُ في الطريقة الأمثل للموت... قلت لنفسي: يا ولد لا تتألم حتى ولو للحظة عابرة. قررت أن أطلق النار على نفسي في المرآة. صوبتُ جيداً وفعلتُ. ومنذ تلك اللحظة وأنا أستغرب أن يصادفني أحدهم ويقول لي: مرحباً، من دون أن يفكر في الدماء التي غطت وجهي وجسدي كله! القناص صوب القناص نحو جبين الصبية. ثبّت الصليب هناك وقرر أن يعطي أوامره لسبابته الملامسة للزناد. في اللحظة ذاتها اقترب وجه شاب من وجهها، ورأى القناص شفتيه يطبعان قبلة على صليب قناصته. تراخت سبابته وذراعه واحتشد غيظاً. زحف ببطء إلى أن اقترب كثيرا، ما مكّنه من إلقاء قنبلة يدوية أطاحت بهما. ولكن صوت القبلة هو الذي دوّى في الأفق. حرمان المرأة التي كُسر كعب حذائها على الرصيف، ارتبكت. وقفت، وخلعت حذاءها من قدمها اليمنى، ووضعت كعب القدم على مشط القدم اليسرى. نظرت حولها، ثم انحنت وتناولت الكعب بيدها اليسرى. نقّلت بصرها بين الحذاء وبين كعبه في يديها. كانت تعرف جيداً أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً. نظرت حولها مرة أخرى، ثم خلعت حذاءها الأيسر، وأخذت تضربه بحافة الرصيف حتى كسرت كعبه. ألقت به جانباً قرب أخيه وارتدت زوج أحذيتها ومضت. الرجل الذي يحمل كيساً أسود، ويفتش الحاويات والأرصفة، والذي لم يسبق له أن فكر بنظرة طويلة إلى امرأة، رأى الكعبين فانحنى والتقط واحداً. قلّبه بيده اليمنى ثم وضع كيسه جانباً وتناول الآخر. قلّب الاثنين أمام ناظريه وقاس طولهما ببصره. الرجل لم يضع الكعبين في كيسه الأسود، لكنه تناول من إحدى جيوبه كيساً صغيراً فارغا ووضع الكعبين فيه، وقرر العودة إلى البيت مبكراً على غير عادة. الرجل أوقف الكعبين على حافة نافذة غرفته، وفرك يديه بفرح. دخل إلى الحمام وخلع ملابسه واغتسل. خرج ووقف ينظر إلى الكعبين ويسرح شعره بهمة فتية.