تشكيل لجنة الإشراف على انتخابات "هيئة المقاولين"    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    بيئي الشرقية يدشن معرض ( تعرف بيئتك ) بالخُبر    تعليق الدارسة وتأجيل الاختبارات في جامعة جدة    لتحديد الأولويات وصقل الرؤى.. انطلاق ملتقى مستقبل السياحة الصحية    فيصل بن فرحان: الوضع في غزة كارثي    عباس يدعو إلى حل يجمع غزة والضفة والقدس في دولة فلسطينية    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    ولي العهد يستعرض تطوير العلاقات مع أمير الكويت ورئيس وزراء العراق    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    بدء العمل بالدليل التنظيمي الجديد للتعليم.. الأربعاء    عبدالله خالد الحاتم.. أول من أصدر مجلة كويتية ساخرة    «جلطة» تنقل الصلال إلى المستشفى وحالته مستقرة    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    منتدى الرياض يناقش الاستدامة.. السعودية تتفوق في الأمن المائي رغم الندرة    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    النصر والنهضة والعدالة أبطال الجولة الماسية للمبارزة    تتضمن ضم " باريوس" مقابل "فيجا".. صفقة تبادلية منتظرة بين الأهلي وأتلتيكو مدريد    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    الأرصاد تنصح بتأجيل السفر برّا لغير الضرورة    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    آل طيب وآل ولي يحتفلون بزفاف أحمد    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    دولة ملهمة    رابطة العالم الإسلامي تُعرِب عن بالغ قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    شوبير: صلاح يقترب من الدوري السعودي    د. اليامي: إهتمام القيادة بتنمية مهارات الشباب يخفض معدل البطالة    محمية الإمام عبدالعزيز تشارك في معرض أسبوع البيئة    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    أمير المدينة المنورة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب في دورته ال 12    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    صحن طائر بسماء نيويورك    جائزة الأميرة صيتة تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    أمير الرياض يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان : انشقاق في حزب "الأمة" أم تراجع عن "اعلان نيروبي"؟
نشر في الحياة يوم 31 - 10 - 1994

فيما يستعد "التجمع الوطني الديموقراطي" السوداني المعارض بكامل احزابه السياسية لتصعيد معارضته داخل السودان بهدف اسقاط الحكومة الحالية التي تدعمها "الجبهة القومية الاسلامية" بزعامة الدكتور حسن الترابي، تشهد المعارضة في الخارج منذ أشهر عدة، نقاشات فكرية داخل كل حزب منها ترافقها اعلانات سياسية، مدوية احياناً، تطالب بالانفصال عن الحزب الأم وتشكيل فصيل يتحدث باسم تيار متنام يتوخى "الاصلاح واعادة التنظيم انسجاماً مع المستجدات الدولية والاقليمية". ومنذ النصف الثاني من تموز يوليو الماضي يشهد حزب الأمة حركة مماثلة تقوم بها مجموعة بقيادة البروفسور محمد ابراهيم خليل، رئيس الجمعية التأسيسية البرلمان في عهد حكومة الصادق المهدي أي في فترة الديموقراطية الثالثة 1985 - 1989. وعقدت روابط ولجان حزب الأمة في الخارج اجتماعات في 21 و22 تموز يوليو الماضي في عاصمة خليجية، صدرت في نهايتها توصيات عدة أبرزها اعتماد "الاسلام الوسطي" القرآن الكريم والسنة أساساً لنظام الحكم في السودان، بعد اسقاط حكومة الفريق عمر حسن البشير. وكلفت البروفسور خليل مهمة التحدث باسم حزب "الأمة" خارج السودان. ولفت النظر ان زعيم الحزب الصادق المهدي المقيم في مدينة أمدرمان لم يصدر عنه ما يؤيد أو يرفض نشاطات خليل، لا سيما توصيات الاجتماع الذي عقد في العاصمة الخليجية.
خلال لقاء "الوسط" مع البروفسور خليل بعد اجتماع سياسي في لندن تحدث فيه ممثلاً عن حزب "الأمة" تلبية لدعوة "رابطة الكتاب والصحافيين السودانيين" في بريطانيا، أعاد رئيس الجمعية التأسيسية السابق التذكير بالمرتكزات الفكرية لحزب "الأمة" بحجة ان "المنطقة العربية تزدحم بدعاة التطرف الاسلامي المطالبين بالعودة الى سيرة السلف الصالح وترك روح العصر. فالفكر الديني المتطرف منذ الثلاثينات، مثل جماعة "الاخوان المسلمين" في مصر و"حزب جماعة اسلامي" في الهند، يرفض مفاهيم الدولة الحديثة بحجة انها لا تتماشى مع الاسلام. فسيد قطب قال بوضوح ان الديموقراطية لا تنسجم مع المفهوم الاسلامي لفكرة الدولة القائمة على الكتاب والسنة. والآن يطالب عباسي مدني وعلي بلحاج في الجزائر بالعودة الى الديموقراطية لأنها توصل "الجبهة الاسلامية للانقاذ" الى السلطة، واذا لم تقم الديموقراطية بهذا الغرض اتخذت "الجبهة" طريقاً آخر. و"الجبهة الاسلامية القومية" في السودان تدعي منذ الستينات انها تقبل الممارسة الديموقراطية. وعندما وجدت فرصة مناسبة قامت بانقلاب عسكري وأطاحت حكومة ديموقراطية منتخبة. والجبهة تبرر عملها هذا بالقول ان الديموقراطية لا تصلح في بلد يطبق تجربة الدولة الاسلامية. لذا رأى حزب الأمة في الخارج، لا سيما انه صاحب طرح اسلامي معروف، ان يعيد التذكير بمنطلقاته الفكرية التي تستلهم الكتاب الكريم والسنة المطهرة مع مراعاة روح العصر".
ويستنكر خليل "تواتر الحديث في أوساط "التجمع الوطني الديموقراطي" عن الدعوة الى فصل الدين عن الدولة، أو عن السياسة". كذلك يرفض دعوة المعارضة السودانية "الى اقامة دولة علمانية في السودان بالاستناد الى دستور علماني بحت". ويعتبر "ان هذه النغمة مزعجة جداً بالنسبة الى المسلم العادي والى جماهير الانصار قاعدة حزب الأمة ومؤيدي الاحزاب السودانية الأخرى في الداخل والخارج". ويرى ان مفهوم العلمنة "برز في أوروبا، وهو يعني فصل الكنيسة عن الدولة ورفض هيمنتها على السلطة. ولم تكن العلمنة تعني رفض الدين المسيحي وعدم تطبيق تعاليمه في الحياة العامة والخاصة".
العلمانية المرفوضة
واعتراض خليل، الذي عرف في بداية نشاطه السياسي بأنه من أكثر المثقفين السودانيين ليبرالية وميلاً الى الثقافة والفكر الغربيين، يستند الى نقطتين:
- الأولى، ان "العلمانية أصبحت مرفوضة لأن معناها، عملياً، لدى كافة السودانيين، عزل الدين الاسلامي عن حياة المواطنين".
الثانية، ان "الدعوة الى فصل الدين عن السياسة اصبحت تعني ان المبادئ الاسلامية تعوق تبني مفاهيم الدولة الحديثة، وهذا فيه افتئات على الاسلام".
ولم يتحرج خليل في مهاجمة "اعلان نيروبي" 17 نيسان / ابريل 1993 الذي وقعه "التجمع الوطني" مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان" لأنه "ينص على علمنة الدولة الحديثة في السودان لجهة ابعاد كل القوانين والمواثيق التي تتعارض مع المبادئ والمعاهدات التي نصت على احترام حقوق الانسان". ومع هذا قال ل "الوسط": "نحن لم نرفض ميثاق التجمع جملة، لكن رفضنا تركز على القرارات التي تدعو الى فصل الدين عن السياسة. وعلى رغم ذلك قرر اللقاء التداولي لحزب "الأمة" قبل أشهر الدعوة الى دولة السودان الحديث التي يحكمها دستور يستند الى الديموقراطية التعددية كنظام للحكم ويكفل حقوق الانسان". والجدير بالذكر ان ممثلي حزب "الأمة" في الخارج، أمينه العام الدكتور عمر نور الدايم ومسؤول العمل الخارجي فيه مبارك فاضل المهدي، قاما بحملة سياسية واسعة مهدت للتوقيع على "اعلان نيروبي" بين احزاب المعارضة السودانية والتيار الرئيسي في "الحركة الشعبية" بزعامة العقيد جون قرنق. وقال نور الدايم ل "الوسط": "نحن في حزب "الأمة" قمنا بحملة سياسية واسعة واجرينا الاتصالات المكثفة مع اخواننا الجنوبيين. وعرضنا لهم وجهة نظر الحزب بالنسبة الى طريقة اقامة دولة حديثة تكفل لكل سوداني حقه في التعدد المذهبي والعرقي ريثما تقتنع "الحركة الشعبية". ووقعنا مع "الحزب الاتحادي الديموقراطي" والاحزاب الأخرى على "اعلان نيروبي". وكانت قيادات حزبي "الأمة" و"الاتحادي" على بينة مما نقوم به في الخارج وباركت عملنا، فكيف يقوم من يدعي انه يمثل حزب "الأمة" ليتهجم على أبرز انجازات الحزب والاحزاب الأخرى منذ انقلاب الجبهة؟".
وعندما سألت "الوسط" محمد ابراهيم خليل عن صفته الحزبية وعمن يمثل وعن مؤيدي حزب "الأمة" الذين يقول انه يعبر عن رأيهم، ويعقد اللقاءات التداولية نيابة عنهم، قال: "انا اتحدث باسم لجان حزب "الامة" في المهجر. هناك لجان في الولايات المتحدة وبلدان الخليج ومصر. وتوصيات مؤتمرنا التداولي الأول تضمنت رفضاً صريحاً لإعلان نيروبي وميثاق التجمع، لا سيما ما ورد فيه عن فصل الدين عن الدولة، ومن يدعي انه وقّع باسم حزب "الأمة" على "الاعلان" لا يملك شرعية القيام بذلك نيابة عن جماهير الحزب في الداخل والخارج". والمعروف ان مسؤول العمل الخارجي في حزب "الامة" مبارك الفاضل المهدي يملك تفويضاً من الصادق المهدي ان يمثل الحزب خارج السودان. وفي هذا السياق قال نور الدايم: "مبارك الفاضل المهدي غادر السودان مكلفاً بمهام محددة. وهو لا يمثل نفسه فحسب بل يمثل حزب "الأمة" بتفويض من الصادق المهدي. وأنا تركت السودان لأواصل نشاطي السياسي وليس بغرض السياحة. والبروفسور خليل لم تعد له علاقة بحزب "الأمة" منذ ان استقال من رئاسة الجمعية التأسيسية عام 1988، قبل اشهر قليلة من انقلاب البشير".
وكان خليل قدم استقالته من رئاسة الجمعية التأسيسية المنتخبة الى رئيس الوزراء الصادق المهدي في آذار مارس 1988 احتجاجاً على اشتراك "الجبهة القومية الاسلامية" في الحكومة بهدف توسيع قاعدة الحكم. وبعد استقالته كتب مقالات في صحيفة "الأيام" السودانية هاجم فيها المهدي قبل ان يبدأ عزلة طويلة انتهت بالاقامة في المنفى الاختياري في واشنطن. وعلى رغم مواقفه السلبية حيال "الجبهة القومية الاسلامية" ورفضه مشاركتها في حكومة المهدي، علمت "الوسط" ان الحكومة السودانية الحالية منحت خليل قبل أشهر قليلة، وساماً من رتبة عالية، أسوة بغيره من رؤساء البرلمانات السودانية في فترات سابقة، وتسلم أحد اقربائه في الخرطوم الوسام الذي يعد بادرة ايجابية حياله من حكومة البشير.
ولا شك في ان "انقلاباً" على هذه الشاكلة يحظى بتأييد ودعم الحكومة السودانية التي تقيم نظاماً اسلامياً شمولياً. والاسلام الوسطي الذي يدعو اليه خليل، كما قال ل "الوسط"، هو "الاسلام المعتدل القائم على الاجتهاد المتمسك بالقيم والمبادئ الانسانية وبتطبيق الاحكام الاسلامية تطبيقاً يراعي تغيير الزمان والعصر".
والواقع ان نشاطات خليل، لا سيما الاجتماع الذي عقده في الخليج وأمسية "رابطة الكتاب والصحافيين السودانيين" في لندن، ولقاءه مع "الوسط" لامست بشكل مباشر ممثل حزب "الامة" في "التجمع" مبارك الفاضل المهدي، فيما جاءت انتقادته "التجمع" و"اعلان نيروبي" في فترة تستعد فيها المعارضة لتصعيد عملها السياسي والعسكري لاطاحة حكومة البشير، الأمر الذي أحدث بلبلة في أوساط الجاليات السودانية في الخارج خصوصاً لجهة تأكيد خليل "ان الصادق المهدي راضٍ عن سعي لجان الحزب وروابطه الى اعادة تنظيم نفسها في الخارج، وهو بعث الينا شخصياً ما يؤكد توجهنا منذ فترة قريبة. ونحن نسعى الى اشاعة الديموقراطية داخل صفوف الحزب بهدف انتخاب لجنة تنفيذية تتولى تمثيل الخارج. وريثما يتم ذلك كلفت انا التحدث باسم الحزب".
اين الصادق المهدي ؟
ولعل ما ضاعف البلبلة "عدم صدور أي موقف واضح عن الصادق المهدي يفصل في كل ما تشهده أروقة حزب الأمة في الخارج. وحول هذه النقطة بالذات تحدث نور الدايم ل "الوسط" قائلاً: "اذا نطق المهدي بكلمة واحدة سيدخل السجن بتهمة ممارسة نشاط حزبي، لأن أحد قرارات مجلس قيادة ثورة الانقاذ ينص على حل الاحزاب السياسية. ومن السذاجة انتظار موقف علني من المهدي بصدد تحركات خليل. ولعلم الجميع فإن خليل ترك حزب الامة منذ استقال من منصبه عام 1988 ولم تعد له علاقة تنظيمية بالحزب. وهو تهجم على السيد الصادق الذي لا يكن له أي مودة. ونحن في الحزب اقنعنا الصادق بتبني خليل في بداية حياته السياسية كونه من المثقفين السودانيين، لكنه لا يحظى بقاعدة شعبية داخل السودان ولا بثقة مؤيدي الحزب الذين يعرفون نمط تفكيره الليبرالي المتحرر ويتذكرون اسلوب حياته في الخرطوم. وتعرف جماهير "الانصار" و"الأمة"، داخل وخارج السودان، ان الانقلاب الجذري في شخصية خليل اسبابه مصلحية بحتة، فليس هناك اسلام وسطي واسلام متطرف، هناك شريعة وقوانينها معروفة وخليل شخصية معزولة منقطعة عن الحياة العامة في واشنطن".
ويرى مبارك الفاضل المهدي ان "قضية خليل معي انا ومع قيادة الحزب قضية شخصية متعلقة بوضعه عندما كان رئيساً للبرلمان خلال الفترة الاخيرة في حكم الصادق المهدي. وقد ارتكب تجاوزات عدة مستفيداً من كونه رئيساً للجهاز التشريعي الذي لا يخضع لرقابة السلطة التنفيذية. وصُرِفَ للبروفسور خليل مبلغ 6 ملايين جنيه سوداني 600 ألف دولار اميركي في شهر تشرين الأول اكتوبر سنة 1987 لتغطية نفقات علاجه في بريطانيا حيث امضى ستة أشهر. وعندما عاد الى الخرطوم واجهته تطورات سياسية مهمة، أبرزها خطاب رئيس الوزراء الذي دعا فيه الى توسيع قاعدة الحكم. وعلى أساس هذا الخطاب دخلت "الجبهة القومية الاسلامية" حكومة الصادق المهدي في شهر أيار مايو 1988. واعتراض خليل لم يكن منطلقاً من مواقف مبدئية بقدر ما كان مستنداً الى هواجس مصلحية بحتة، لأن دخول "الجبهة" سيفقده منصبه في الجمعية التأسيسية، فحسب التوزيع الجديد للسلطة ستكون رئاسة الوزراء لحزب "الامة"، ورئاسة مجلس رأس الدولة لحزب "الاتحادي الديموقراطي" وتذهب رئاسة البرلمان الى "الجبهة القومية الاسلامية"، ما يؤدي الى فقدان خليل منصبه كرئيس للبرلمان. لذلك حاول تعطيل نصاب جلسات البرلمان، ودخل في مواجهة مع ثلاثين نائباً يمثلون الهيئة البرلمانية لحزب "الأمة". اذ رفع هؤلاء عريضة تطالب بإقالته ولما شعر بأن الأمور لن تكون لمصلحته قرر تفادي الحرج فقدم استقالته. وبدأ يمارس سياسة القدح والذم بحق زعيم حزب الأمة لأنه قرر اشراك "الجبهة" في حكومته، علماً ان قرار الصادق كان قراراً مؤسسياً توافرت له شرعية الأصول الحزبية. ويؤسفني ان ينطلق خليل في حملته على رئيس حزب "الأمة" وعليّ أنا شخصياً من أسباب مصلحية بحتة، علماً اني كنت في طليعة الذين اقنعوا الصادق بتسميته رئيساً للجمعية التأسيسية". وأردف مبارك الفاضل المهدي قائلاً: "ان خليل يعيش معزولاً في واشنطن ولا علاقة له بالحياة العامة فيها أو في المنطقة. ولا يمكن القول ان طروحاته لا سيما الاسلام الوسطي، تلقى ترحيباً وقبولاً لدى أوساط معينة في ادارة الرئيس كلينتون. وفي كل حال لا يمكن ان تطبق، بصورة انتقائية، ما نصت عليه الشريعة السمحاء من قوانين وعقوبات وحدود. فإما شريعة واما لا. ولا أعرف ما هو الاسلام الوسطي الذي ينادي به البروفسور. ولا علاقة لحزب الامة بكل هذه الدعاوى".
فاروق أبو عيسى
أما قيادات "التجمع الوطني الديموقراطي" فلم تستفزها تحركات خليل ولا انتقاداته الموجهة الى انجازات المعارضة، ممثلة باعلان نيروبي ودستور المرحلة الانتقالية التي ستلي اطاحة حكومة البشير. اذ يرى فاروق أبو عيسى، الأمين العام لاتحاد المحامين العرب عضو لجنة التنسيق العليا في "التجمع" ان الخلاف بين خليل ومبارك الفاضل المهدي "مسألة داخلية خاصة بحزب الامة، وليس من المصلحة العامة الخوض فيها، لأن ذلك يؤدي الى بعثرة وتفتيت المعارضة في وقت نسعى الى توحيدها وتصعيد نضالها لإسقاط حكومة الجبهة". وتطرق أبو عيسى الى حديث خليل عن اعتماد الكتاب والسنة بعد سقوط نظام "الجبهة" فقال ان ذلك موقف غريب، خصوصاً اذا صدر عن البروفسور الذي عرف بمواقفه الليبرالية، وهو موقف يرفضه السودانيون وفي طليعتهم الصادق المهدي نفسه، كما كتب وقرأنا لنا في هذا الشأن. فكل من ينادي بإقامة دولة دينية في السودان يلعب بالنار التي تهدد الوحدة الوطنية ويعرض البلاد للتفتت. فالشريعة الاسلامية واحدة، والكتاب والسنة كل لا يتجزأ. والدولة الاسلامية احكامها معروفة ولا يمكن ان يكون هناك اسلام وسطي واسلام متطرف. اما العلمنة فلا يوجد في السودان من يتحدث عنها كما طرحها الغرب. كلنا مقتنعون بضرورة استلهام القيم الروحية للاسلام والمسيحية، لكن هذا لا يعني القبول بالمزج بين الدين والسياسة". وأردف أبو عيسى قائلاً: "لا اعلان نيروبي ولا ميثاق التجمع يتحدثان عن العلمانية. ولم يرد هذا المفهوم في مقررات "التجمع" حتى يقول خليل أننا غارقون في العلمانية. واتمنى ان تفكر كل قيادات الاحزاب وكوادرها في ما تقول. وان تتوخى الصدق في ما تلتزم به في عقود واتفاقات مع اخوتنا في الجنوب بما يؤدي الى الحفاظ على وحدة السودان. فكل مخاوف اخوتنا في الجنوب مبررة اذا ما سمعت ما يقوله البروفسور خليل".
الديمقراطي الاتحادي
لكن ربيع حسنين، ممثل الحزب "الاتحادي الديموقراطي" جناح الشريف الهندي في المملكة المتحدة وغرب أوروبا له رأي مختلف حيال موقف خليل عن رأي أبو عيسى، وقال ل "الوسط" ان ما يقوم به البروفسور خليل هو "حركة تصحيحية داخل حزب الأمة. وبروز الحركات التصحيحية داخل الاحزاب السودانية بدأناه نحن عندما سعينا الى ابعاد الطائفية عن العمل السياسي داخل "الاتحادي الديموقراطي"، ابن الحركة الوطنية السودانية. والمؤتمر التداولي الأخير لحزب الأمة بقيادة خليل جاء بكثير من القرارات التي نعتبرها مخاضاً لبدء الاصلاح والتصحيح داخل الحزب بهدف مباشرة الممارسة الديموقراطية، ونحن كنا الرواد في ذلك. وما حركة الخاتم عدلان وخالد الكد، داخل الحزب الشيوعي، الا ارهاصات لخلق احزاب سودانية جديدة تقوم على الديموقراطية. وكيف تنجح احزاب المعارضة في دورها اذا لم تمارس الديموقراطية داخل اطرها؟ ما قام به خليل ليس خلافاً شخصياً مع قيادات حزبه بقدر ما هو حركة اصلاحية داخل "الأمة"، يشهد مثيلاً لها الحزب الشيوعي السوداني".
أما التيجاني الطيب، أحد أبرز قيادات الحزب الشيوعي السوداني ومن قادة المعارضة فقال ل "الوسط": "ثمة صراعات كثيرة داخل الاحزاب السودانية. ويستحسن ان تترك لكل حزب فرصة حسم أموره الخاصة بعيداً عن الفرقعة الاعلامية. بالنسبة الينا في الشيوعي السوداني هذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يشهد الحزب فيها بروز افكار جديدة. وتدخل الآخرين في الصراعات الحزبية الداخلية مضر للغاية. ولا يجب ان نتطرق الى ما تشهده الاحزاب الأخرى من خلافات وتباين في وجهات النظر. اما "اعلان نيروبي" فأصبح مكسباً لشعب السودان وللحركة السياسية، وهو لم يأتِ صدفة بل نتيجة صراع وتبادل للرأي استمر سنوات طويلة، ولم يكن مؤامرة أو تنازلاً لاخوتنا الجنوبيين. انه تصور نهائي للعقل السوداني حول مسألتي الدين والدولة. ولا استطيع ان افهم كيف يكون مفكر واع مثل البروفسور خليل ضد "اعلان نيروبي"؟ أنا افترض ان خليل لم يقرأ "الاعلان" الذي لم يذكر كلمة علمانية ولم يتحدث عن الشريعة الاسلامية السمحاء. كل ما ذكره باختصار هو ان أي تشريع في السودان الجديد يتنافى مع حقوق الانسان أو مبدأ المساواة في المواطنة يعتبر غير دستوري وغير ذي قيمة".
من جهته رأى الدكتور عز الدين عامر، أحد أبرز قيادات الحزب الشيوعي السوداني، في تصريحات خليل الذي يعرفه منذ الخمسينات "صورة اخرى لحيرة المثقف السوداني المسيس، ففي الاربعينات اسس البروفسور خليل جمعية الملحدين تعزيزاً لمكانة اللادينيين في السودان. وهو اليوم يتحدث عن الاسلام الوسطي". وقال عامر ل "الوسط": "تمثيل حزب الأمة في الخارج قضية خاصة بالحزب. وأنا عندما غادرت السودان بعد انقلاب البشير حملت معي تكليفاً رسمياً من مهدي داوود الخليفة، ممثل حزب الأمة داخل سكرتارية "التجمع" في الداخل الى احمد عقيل لتمثيل الحزب داخل التجمع".
امين مكي مدني
واستغرب الدكتور أمين مكي مدني، رئيس المنظمة السودانية لحقوق الانسان وأبرز القيادات المستقلة في "التجمع" التحول في موقف خليل، وقال ل "الوسط": "البروفسور خليل كان استاذي في الجامعة وموقفه هذا يشكل تراجعاً بنسبة 180 درجة عن مواقفه السابقة بالنسبة الى قضايا مهمة مطروحة حالياً في السودان منها قضية الدين والدولة. وقد دفع خليل ثمن مواقفه عندما استقال من رئاسة البرلمان وأرفق استقالته الاحتجاجية بسلسلة مقالات جريئة نشرها في صحف الخرطوم هاجمت كلها قوانين سبتمبر 1983 والجبهة القومية الاسلامية. وموضوع الوسطية في الاسلام، كما يطرحه البروفسور، لا يعدو كونه مجرد شعار، مثل الشعارات الأخرى، وكلنا نعرف ان الشعارات لا تعطي الاطار القانوني الواضح لمعالجة مسألة التعددية العرقية والمذهبية في السودان. كما لا يشمل الشعار أي سمة من سمات برامج الحكم في مسائل الاقتصاد والصحة والمرافق الخدمية. وبالنسبة الى "التجمع" فأنا أعرف ان الموقف المعلن لحزب الأمة هو انه ابتداء من 17 نيسان ابريل 1993 وافق الحزب على مبدأ فصل الدين عن الدولة. وحديث البروفسور خليل ينسف تماماً الوفاق الذي اجمعنا عليه في نيروبي كما يعيدنا الى المربع الرقم واحد، ويؤثر سلباً على صدقية سياسيي شمال السودان وطريقة معالجتهم القضايا الخلافية في بلادهم مع اخوتهم الجنوبيين بسبب التعدد المذهبي والعرقي، ما يؤدي الى تهديد الوحدة الوطنية، خصوصاً ان القوى السياسية الشمالية قبلت بالاجماع مبدأ حق تقرير المصير بالنسبة الى اخوتنا الجنوبيين. فإن كنا بدأنا منذ الآن الحديث عن دولة مؤسسة على الدين فإن عبء المسؤولية يقع علينا كمثقفين كوننا نهدد بأنفسنا الوحدة الوطنية التي نتباكى عليها".
وفي الاطار نفسه تحدث العقيد جون قرنق، زعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، حديثاً مفعماً بالمرارة الى "الوسط" عن ظاهرة النكوص والارتداد لدى المثقف السوداني الشمالي، فقال "في العام 1986 جلسنا طوال ست ساعات أنا ورئيس الوزراء الصادق المهدي نبحث في قوانين سبتمبر 1983، واتفقنا على تجميد هذه القوانين وفي اليوم التالي انكر الصادق المهدي ما اتفقنا عليه". وأردف قرنق: "انا لا اتدخل في الأمور الداخلية للاحزاب الحليفة. ما يهمني هو التزام هذه الاحزاب ما وقّعت عليه من مواثيق وعهود مع الحركة الشعبية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.