إطلاق جامعة طيبة لمعرض "مكين" الهندسي    سمو محافظ الطائف يرعى حفل افتتاح المجمع القرآني التعليمي النسائي    قمة عادية.. في ظرف استثنائي    الأهلي يتحدى الهلال والاتحاد يبحث عن «النصر»    الاتحاد في مأزق الخليج.. نقاط الأمان تشعل مواجهة الوحدة والرائد    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    صفُّ الواهمين    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    معاً لمستقبل عظيم !    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج من أسعد الليالي التي أحضرها لتخريج أبنائي وبناتي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    شتلات شارع الفن    خارطة طريق سعودية - أميركية للتعاون في مجال الطاقة    السعودية مثال يُقتدى    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    خطوة جادة نحو رؤية وزارة الرياضة    القيادة تهنئ رئيس الباراغواي ورئيس وزراء سنغافورة    «حلبة النار»… النزال الأهم في تاريخ الملاكمة    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    السفير الإيراني يزور «الرياض»    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باميلا كوبر تروي مشاهداتها في العالم العربي في كتاب 7 حكاية نصف قرون من عمر الشرق بعيني كونتيسة بريطانية
نشر في الحياة يوم 24 - 01 - 1994

يصدر هذا الأسبوع كتاب غيمة من النسيان لمؤلفته باميلا كوبر، الفيكونتيسة البريطانية التي عاشت وتجولت في معظم البلدان العربية حيث عرفت الانتداب البريطاني على فلسطين وقيام دولة اسرائيل كما شهدت سقوط الملكية في العراق وحصار اسرائيل لبيروت777 الوسط حصلت على نسخة من الكتاب قبل صدوره وأوراق كوبر الخاصة التي لم تنشر وكان هذا التحقيق:
المكان: مصر
الزمان: أيام الملك فاروق
القاهرة تعج بالافندية والباشاوات والضباط البريطانيين وجواسيس الطليان وعلى ضفاف النيل يشرع نادي محمد علي أبوابه لولائم الارستقراطية الاجنبية فيما فلسطين في مطلع الهجرة اليهودية تهيئ فدائييها الأوائل ويتسلل ثوارها في ظلمة الليالي لجمع الذخائر والسلاح الأبيض وبنادق البرن وتصبح تل أبيب المدينة الجديدة، معقل استيطان يكتظ بالمهاجرين اليهود الوافدين من روسيا وأوروبا الشرقية الوسطى7 في القدس تتردد قصة الأميرة السورية اميرة حسن الاطرش المعروفة باسم اسمهان، على كل لسان7 اما عمان المبنية حدياث فتبدو قرية صغيرة انتشرت في أرجائها بضعة بيوت بيضاء تحيط بها اشجار الرمان وتشرف عليها خيمة الأمير عبدالله الذي يؤثر استضافة زواره فيها على استقبالهم في قاعات القصر الملكي7 وعلى جوانب الطريق المؤدية الى دمشق، ترتفع اشجار الكينا المستقيمة وتملأ البساتين اشجار المشمش المزهرة7 في شوارع العاصمة تختال سيدات الانتداب الفرنسي في عربات مكشوفة بين البيوت والحدائق المستحدثة7 وفي أسواقها القديمة يعمل المسلمون واليهود في التجارة والحرف7
هكذا ترسم البريطانية باميلا كوبر خريطة الشرق في كتابها غيمة من النسيان | عابقة بتلك الأجواء والصور التي يبدأ زمانها في مطلع الحرب العالمية الثانية فيشمل مجرياتها ليمتد إلى أزمنة الانتداب ومشاريع التجزئة وقيان الدول المستحدثة في المنطقة وصولاً الى ازمنة الحروب العصرية التي نسميها باميلا كوبر حروب القنابل الكاتمة للصوت والقذائف الفوسفورية والدمار النووي التي شهدتها عام 1982 إبان الحصار الاسرائيلي لبيروت7
نحن امام خريطة مشرق عربي يعرض تاريخها على امتداد خمسين سنة، من 1933 الى 1983، حيث يشرف فيها القرن العشرون على نهايته7 قرن من الاضطرابات وإرث من المشاكل والازمات في المشرق خلفته وراءها الامبراطورية البريطانية بعد اقرارها لوعد بلفور7 كما تصفه كوبر في كتابها7
بداية التعرف على الشرق
في بداية تلك الحقبة البلفورية وبالتحديد في عام 1935، تعرفت باميلا كوبر على الشرق للمرة الأولى، بعيون شابة في مطلع العشرينات، ترعرعت في كنف عائلة انغلو - ايرلندية بإشراف والدها الذي كان راعي الأبرشية الانجيلية في شمال ايرلندا7 فاصطحبتها عرابتها كاثلين ريز - هوغ ابنة السير فريدريك ويللر أحد كبار أثرياء التبغ آنذاك، في رحلة للحج في الأراضي المقدسة ورؤية بدائع أزهارها البرية، نظمتها لهما شركة توماسكوك الشهيرة في جناح خاص لقطار شبيه بال اورينت اكسبرس7 يومها، كتبت كوبر، كان السفر مقتصراً على الأثرياء وأصحاب الامتيازات الذين كانوا يقومون برحلات استجمام وسياحة7 اما الفقراء الذين تضطرهم الحاجة الى السفر فكانوا يحتلون المقاعد الخشبية المضلعة في ممرات القطار7
قطع بهما القطار اوروبا من غربها الى شرقها ودخلتا آسيا من بوابة تركيا التي تصفها الكاتبة بدولة نصف أوروبية ونصف شرقية، تمكن اتاتورك وهو يبدو قائداً فذاً وقوياً من تثويرها خلال حقبة زمنية لا تتعدى ال10 سنوات7
وفي رسالة بعثت بها الى والدتها كتب كوبر: في اسطنبول تتجول النساء في الشارع غير محجبات7 والرجال استغنوا عن اعتمار الطرابيش العثمانية الا ان قلة قليلة منهم ما زالت تتمسك بالسروال التركي التقليدي7
لكن الشرق لا يبين فعلياً أمام ناظريها الا بعد ان تقطع جبال طوروس فتطل مدينة المنظر الأول والحقيقي للشرق7 ومن على شرفة فندق البارون تأملت المستشرقة الشابة قافلة من الجمال يتقدمها رجال اعتمروا الطرابيش وامتطوا الحمير7 فيما تحلق أسراب الحمام واليمام زرقة الأجواء.
حلب الثلاثينات كروم زيتون افترشت ارضها زهور برية بنفسجية وبيضاء وفي أسواقها حرائر وأوان نحاسية وزخرفيات7 العرب يجلسون متربعين على بسطاتهم وداخل دكاكينهم ولا يحركون ساكناً لالتقاط الزبائن كما كان يحدث في اسطنبول7
وتنفح في صدرها خلجات توراتية إذ تلاحظ إن الوجوه في حلب تشابه وجوه الرعاة الملوك التي كانت تكثر في صور الكتب والقصص الدينية7
فمنذ وصولها الى تلك المحطة المشرقية الاولى، يتدافع قلم باميلا كوبر في ديباجة ادبية استشراقية تصوغ العديد من لوحاته من ايحاءات ايمانية مستقاة من مطالعاتها وقراءاتها للتورات والمزامير، قلم تزداد وتيرته خلال زيارتها القدس7
لكن طريق المدينة المقدسة تمر عبر بيروت ودمشق7 ومرافئ ومدن مشرقية تشكل بانوراما من المناظر الطبيعية تمازج صفوها سلطات الانتداب الفرنسي7
فبيروت في اواسط الثلاثينات لم تكن بعد سويسرا الشرق، بل باريس الثانية وهي بالتأكيد، تتابع كوبر، مدينة مفرنسة من نواح عديدة7 ومن نافذة فندق السان جورج الذي ترتفع عملياً اساساته في البحر، كما تدون باميلا، ينساب الخط الساحلي حتى يصل الى سلسلة جبال لبنان التي تغطي قممه ثلوج شتاء متأخر7
في الطريق إلى دمشق تشير كوبر الى معلم توراتي آخر: المكان الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل وهو يقع على جبل حيث بني مقام ديني اسلامي7
ودمشق كما بيروت مدموغة بالختم الفرنسي7
فلسطين لوحة ترسمها باميلا كوبر تكسوها اشجار الزيتون العتيق التي تتدرج الى السماء7 وفلاحوها يعالجون الارض بمحراث خشبي بدائي كما كانت الحياة ايام السيد المسيح7 وتلحظ المؤلفة ان البلاد بقيت على حالها وتراجع العمران بسبب اهمال الحكم العثماني لها7 فالعديد من المدن المذكورة في المزامير تحولت الى قرى معلقة على تلال شهدت عصوراً امبريالية7
في القدس، زارت باميلا كوبر الحي اليهودي السامري في المدينة القديمة لتكتشف ان سكانه وهم من اليهود الاصوليين غرباء عن عجنة اهل البلاد، فهم اوروبيون بوجوههم الشاحبة التي تحيط بها لفائف من الشعر المجعد والمتدلي7 بعضهم اعتمر قبعات من الفرو وآخرون ارتدوا الثياب السوداء كالتي درجت في العصور الفيكتورية، لا يسلمون على أحد ولا ينظرون في عيون الآخرين عكس العرب في المدينة7
ولا تخفي باميلا كوبر الانزعاج التي كانت تثيره في نفسها تصرفات وعادات تلك الجماعات الدينية التي كانت تفد من كل ارجاء أوروبا7
في شرقي الاردن يحظى وفد الحجاج بمقابلة مع الامير عبدالله الذي كان يتواجد، كما تروي كوبر، في خيمج بدوية واستعة، ضربت بين اشجار الصنوبر في باحة قصره7 وقد كان معروف عنه تمسكه بالعادات العربية الأصيلة7 وتتابع الرواية فتصف كوبر حراس الامير الذين كانوا مختارين من القبائل البدوية في الصحراء يرتدون غفارات كاكية وأحزمة قرقمازية تتنافر وعقالاتهم7 اما الامير فرجل متقدم في السن، واضح الملامح حاد العينين7 كان يلبس الزي العربي ويعتمر عقالاً ذي خيوط ذهبية7
في البتراء يدعيان الى حفلة نسف احتفاء ببيك باشا الذي كان مؤسسا وقائداً لجيش الامير عبدالله آنذاك قبل ان يخلفه على المنصب جون غلوب الذي سمي في ما بعد غلوب باشا7 فتدون باميلا كوبر ملاحظاتها أثناء المأدبة: راقبنا وصول الباشا الى المخيم على صهوة جواد عربي اصيل7 كان يرتدي عباءة قرقمازية طرحها على كتفيه فوق بزة عسكرية، بترولية اللون7 كان بيك باشا اسطورة في البلاد بعد ان قاد القوات المصرية على الجمال لمساندة جيوش الامير فيصل وتي7 في ولورنس في حملة الصحراء ضد الاتراك7 بالنسبة الى رجاله كان محور العال اما بالنسبة الينا فكان لطيفاً ولا يظهر أي تكلف7
اما مصر الثلاثينات فجنة على الارض، مكتظة بوجوه سمراء مبتسمة تعمل بنشاط وفرح في حقول وأراض شاسعة تخصبها مياه النيل7 واقع يتغير جذرياً عندما تعود باميلا كوبر اليها في بداية الاربعينات وفي فندق الاقصر، تختتم رحلتها الاستشراقية بمجالسة احد البصارين الذي يبوح لها برؤيته ويخبرها بأنها ستنجب ولدين وستعيش في ظل اعلام مرفرفة7 كذب المنجمون ولو صدقوا الا ان تلك الرؤية لم تكن بعيدة عن الواقع الذي تختبره باميلا في الحقبة الثالثة من حياتها والتي تفتتح بها فصلاً آخر في تاريخ مشرق مضطرب تعصف به رياح ثورية وانقلابية وتتجاذبه مشاريع التفتيت والتجزئة تستحدث كيانات جديدة مستقلة7
عودة بوجه آخر
وفي ظل اعلام مرفرفة تعود باميلا كوبر الى المشرق في أواخر عام 1939 بعد اقترانها في الفيكونت باتريك روثفين ابن اللورد غاوري الحاكم المعتمد لاوستراليا وضابط في فرقة الخيالة في الجيش البريطاني7 تنتقل الفيكونتسة باميلا روثفين للسكن في القدس ويلتحق زوجها بوحدته العسكرية في نابلس7
قبل اندلاع الحرب العالمية، تحفل مفكرة باميلا بنشاطات اجتماعية تدخلها الأوساط الديبلوماسية والعسكرية وحلقات الأرستقراطية المحلية والمنتدبة شؤون وشجون الجالية البريطانية المقيمة في القدس والمآرب البروتوكولية تشغلها ليس فقط عن هواية قطف أزهار المشرق البرية التي طالما احبتها بل عما كان يجري خارج صالونات الضباط ومجالس السفراء والقناصل7 القليل الذي تعرفه عما يجري في نابلس يردها في مراسلة زوجها الضابط، يخبرها فيها عن عمليات المداهمة بيت ابي عمر وبعد جهد جهيد عثرنا على مسدس اوتوماتيكي غير صالح للاستعمال وسلاح قديم معكوف وسكين مطبخ يعود الى وحدة السلاح الجوي المتمركزة هنا7 وفي بيت آخر تم تفتيشه عثر الجنود على صورة أحد قياديي الثوار مخبأة في صندوق ذخيرة كتب عليه كلمات بالتركية7
في العام التالي، اي في بداية عام 1941، تعيد الفيكونتسة، توضيب حقائبها لتنتقل وزوجها الى القاهرة.
"المدينة في الأربعينات ما زالت أنيقة، تروي الفيكونتسية، الملك في قصره والباشاوات في فيللهم الفخمة يولمون او يقامرون في نادي محمد علي7
وفي السفارة البريطانية التي كانت تفرد حدائقها حتى ضفاف النيل تحضر باميلا مآدب عشاء السفير مايلز لامبسون الذي كان يعتبره الوطنيون اقوى نفوذاً من الملك فاروق تدون المؤلفة في احدى الحفلات تتعرف الى فيرايا ستارك، المستشرقة المعروفة التي كانت تعمل آنذاك في وزارة الإعلام البريطانية، مسؤولة عن قسم الدعاية أو الترويج للمجهود الحربي وتقوم بزيارة قصيرة الى عدن حيث كانت تجري سلسلج حوارات صحافية مع جنود طليان في الأسر7 كانت عدن خارج الخط الفاشي اما الوضع في القاهرة فكان مغايراً حيث الإيطالية لغة تهمس في المقاهي والنوادي وتتناقل معلومات تفيد بأن انطونيو بوللي بك، المهندس المسؤول عن قصر الملك وأحد أصدقائه المقربين جاسوس يعمل لصالح القوات الفاشية7 وارتأت آنذاك دائرة المخابرات المختصة بالشرق الأوسط، تتابع كوبر روايتها لما حدث، ايعاز الملك بطرد بوللي بك7 فاشترط لتنفيذ الدعوة، ان يطرد السفير لامبسون زوجته التي كانت تحمل الجنسية الايطالية7 في هذه الاجواء الحربية الممزوجة بالقلق والحذر، نشطت شبكات العلاقات العامة وتطوع العديدون في اجهزة المخابرات البريطانية والفرنسية7 في هذه الفترة، كانت الاميرة الدرزية، أميرة حسن الاطرش والتي عرفت في ما بعد باسمها الفني اسمهان تقيم في جناح خاص لها في فندق الملك داوود في القدس7 امرأة تصفها باميلا كوبر، على قدر كبير من الجمال والجاذبية7 انفصلت عن زوجها حسن الاطرش الذي كان الجنوال الفرنسي كاترو عينه حديثاً وزيراً للدفاع7 بالنسبة الى المخابرات العسكرية كانت الأميرة حجرً هاماً في لعبة تنازع الانكليز والفرنسيين على المصالح الاقتصادية في سورية ولبنان، لما تتمتع به من تأثير على جماعتها7 اما علي خان، نجل الاغا خان وزعيم الاسماعيليين فقد وجد توافقاً بين مهمته في تأليب الاوساط الاسماعيلية والدرزية في سورية ولبنان بتكليف من البريطانيين وميوله الى الاميرة الدرزية77
تقفل كوبر الملف لتفتح آخر: مرحلة عملها مع فيرايا ستارك في حركة اخوان الحرية التي قامت بتأسيسها الاخيرة في القاهرة واستهدفت عبرها نشر المفهيم الديموقراطية وسط الافندية الشباب والتجار الصغار والعائلات الريفية بغية ابقاء المصريين في خندق السياسة البريطانية مخالفة بذلك خطة السفير لامبسون الداعية الى فتح صالون اجتماعي ترفيهي تتم فيه لقاءات بين البشاوات ومسؤولين بريطانيين نافذين7
عن نشاطاتها في حركة اخوان الحرية، تكتب كوبر: كنت امضي ساعات طويلة اصغي فيها الى الافندية واغلبهم يعمل في الدوائر الحكومية، وأدون مطالبهم وآراءهم او ارافق وزير الزراعة في جولة على بعض المشاريع الزراعية التجريبية واجالسه في نادي محمد علي، مستمعة الى شكاويه من اوتفاع الاسعار بسبب الاستمرار في دعم المجهود الحربي للحلفاء ومن الضيق المعيشي الذي كان يعاني منه الفلاحون العاجزون حتى تأمين لقمة العيش7
في غمرة تلك المهمات الشائكة، كانت المؤلفة تتمكن من القيام باسفار مشتركة مع زوجها اثناء مأذونياته، فتعود الى بيروت حيث كانا يقومان بركوب الخيل في نزهات طويلة قرب ميدان سباق الخيل تحت غابات الصنوبر الكثيفة حيث بدأت تظهر مجمعات اكواخ التنك التي أهلت بعائلات شيعية تهاجر الجنوب وتلجأ الى العاصمة بحثاً عن الرزق7 وعلى الرغم من انحسار حدائق الصخور والازهار التي تحدثت عنها في رحلة الثلاثينات لصالح العمران فقد بقيت بيروت الاربعينات مدينة جميلة مزخرفة بالقراميد الحمراء والبيوت العثمانية القديمة التي تسيجها شرفات واسغة حيث كنا نقيم حفلاتنا الاجتماعية7
بيروت كانت المكان الاخير الذي ركبت فيه الخيل مع الفيكونت الفارس قبل ان يعلن بين المفقودين في الصحراء الغربية وتتلقى خبر استشهاده في مستشفى ايطالي من ضابط صديق عاوده هناك بعد ان عادت الي ايرلندا لتنجب ولدها الثاني الذي لم يعرف والده7 اما هي فقد أدرجت في السجلات الرسمية في خانة أرامل الحرب7 وضع تعاني منه الكثير وربما كان بعضاً من الوقود التي اشعلت بها نقمتها على سياسة تشرتشل مدركة بأن قائد بلادها وروزفيلت وستالين يمارسون اللعبة ذاتها، تلك اللعبة القديمة، كل بطريقته، مخلفين وراءهم البؤس الذي لا يمحى7 من اجل ماذا قتل بات زوجها ورفاقه في الصحراء الغربية؟ من اجل الطرق التجارية الى الهند وخطوط امدادات البترول؟ كانت على اتصال دائم يفيرايا ستارك التي اوعزت اليها بعدم زيارة بيت سرسق في بيروت اذ باعوا الكثير من اراضيهم في فلسطين الى المستوطنين الجدد وجمعوا الاموال في المتاجرة بالصحين في سورية اثناء موجة الضيق والجوع في الحرب العالمية7 في اواخر الصيف، تنتقل الى بغداد للالتحاق بستارك بهدف معاونتها في تنظيم حركة اخوان الحرية ثانية في العاصمة العراقية على نمط سابقتها في القاهرة7 في تلك الحقبة تقوم حركة مقاومة عراقية ضد الانكليز تواجهها قوات من الجيش البريطاني مستقدمة من الهند7 يتم الانقلاب على الملك فيصل الثاني ويتسلم الحكم الزعيم الوطني رشيد الكيلاني7 وفي أواخر صيف ال41، يخلفه نور السعيد، تكتب كوبر، الموالي للبريطانيين الذين كانوا بدأوا تسللهم الى سورية بمؤازرة الفرنسيين الاحرار7
الرحلة الثالثة
لكن علاقة الفيكونتسة بالمشرق العربي لم تنته بنهاية الحرب العالمية الثانية وزواجها من ضابط في الجيش البريطاني7 تعود اليه مع زوجها الثاني المايجور دريك كوبر، الذي تعرفت عليه وكان عائداً حديثاً من فلسطين حيث التحق بالقوات البريطانية في آخر أيام الانتداب7
روزنامة المشرق العربي مع دريك كوبر اختلفت تماماً عن روزنامة رحلتيها السابقتين7 في ال23 كان هدف الرحلة الى المشرق الحج الى الديار المقدسة7 في وبداية الاربعينات، كان العمل الاجتماعي والسياسي للمجهود الحربي والتطوع في آلية الدعاية التي روجت لسياسة الحلفاء من موقعها كزوجة ضابط في جيش المملكة7 لكن عودتها في اواخر الخمسينات والستينات تمت من منظار سياسي اخر، معاكس للموقع الذي وجدت نفسها به في مرحلة الاربعينات7 نطاق عملها هذه المرة تركز على اعمال الاغاثة والعون7 وكان المايجور تطوع في جمعيته "Save the children fund" الدولية بعد ان غادر صفوف الجيش مؤثراً العمل الانساني الاجتماعي على العمل العسكري7 كان كل منهما تعلم الدرس في تجربته في الشرق الاوسط7 كلاهما شهد ويلات المنطقة ومأساة شعوبها وأدرك قذارة اللعبة السياسية وتلاعب الدول الكبرى بمصائر الشعوب وحقوقها من اجل مطامح ومصالح اقتصادية بحتة7 جمعتهما فلسفة سياسية وانسانية مشتركة مستقاة من تجربة ميدانية وحياتية عاشاها في المنطقة نفسها: الشرق الاوسط، اليه، يعودان في ربيع الستينات7 رحلة رائعة لكنها أعادت ذكريات موجعة7 تكتب في بدايتها7 كانا يومها يقومان بجولات مكوكية في الصحراء الاردنية ناقلين الطعام والدواء لقبائل البدو في جنوب الاردن7 في طريقهما الى عمان، يمران ببيروت الستينات وكانت المدينة تغيرت بالنسبة الى باميلا وصارت كما شاع صيتها آنذاك مدينة الملذات والرذائل7 اما الاردن في الستينات فكانت المقارنة مع جارتها سورية التي مرت بانقلابات سياسية عديدة منذ استقلالها عن فرنسا، تتمتع باستقرار نسبيين7 وعلى الرغم من ان الملك حسين قد تخلص من غلوب باشا خلال ازمة السويس في ال 56 الا انه تمكن من المحافظة على علاقة طيبة ومميزة مع بريطانيا7 وتشير كوبر باسهاب الى الازمة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعاني منها المملكة بعد ان لجأ اليها اهالي الضفة الغربية الذين كانوا يملكون اراض وبيوت والمهجرون الذين التجأوا اليها ايضاً بعد ال48 وجميعهم كان يتعايش اليوم مع المزارعين وبدو الصحراء في الضفة الشرقية7 وعلى الرغم من ان البعض منهم كان جلب اموالاً وقدرات الا انهم كانوا يشكلون معضلة ضاغطة علي هذا البلد الفقير الذي تغطي الصحراء الفقراء اكثر من نصف مساحته والذي كان عاجزاً عن استيعاب 650 الف نسمة اضافية7
وتتحدث كوبر عن مساعي الاونروا لايجاد حل لتلك المعضلة احياناً كثيرة دون اي تجاوب او تعاون من قبل اللاجئين أنفسهم الذين كانوا يرغبون سياسياً وعاطفياً في العودة الى ديارهم7 وفي غمرة العمل مع اللاجئين في الضفة تبين للاونروا أن المزارعين والفلاحين كانوا ايضاً يحتاجون الى اعمال اغاثة7 وهكذا يلتحق المايجور وباميلا كوبر في حملة عون غذائية وصحية في اربد حيث يقومان بافتتاح مراكز غذائية وعيادات نقالة وتأمين اطباء وقابلات قانونيات بغية تلبية حاجات المواطنين وتوفير الشروط الصحية لأربعة آلاف طفل في ستة قرى، جميعها في أربد7
بعد عمل استغرق ستة اشهر ونيفاً مع الاوكسفام والاونروا وجمعية "Save the childrin"، يتجه الزوجان الى الجنوب للكشف على اوضاع قبائل بدو العزازمة الذين كانت مراعي مواشيهم وقطعانهم في ما صار اسرائيل وتحولوا الى لاجئين بدورهم7 حالتهم المعيشية كانت معدومة بعدما انقطع باب رزقهم وهلكت مواشيهم7 واتضح لهما وضع القبائل عامة فتتابع باميلا جولتها الصحراوية فتتحدث ايضا عن وضع قبائل بدو الحويطة التي لم تكن اقل سوءاً من العزازمة وكانوا يعانون الكثير بعدما انهارت تجارة الجمال وبدأت العادات والتقاليد الصحراوية تضمحل ونفق القسم الاكبر من قطعانهم ومواشيهم التي كانوا يعتمدون عليها للأكل والشرب والمسكن والانتقال7 انقلبت حياتهم رأسا على عقب7 وكانوا في حالة اعمال شديدة يعانون من سوء التغذية والفقر7
على الطريق الى وادي عربة المنطقة وعرة تشير كوبر الى الجفاف والقحط فيها حيث لم يكن ظلاً ولا شجرة باستثناء بعض اشجار البرية القليلة التي تجد تحتها بعض الحجارة المتراكمة أو المصفوفة تشير الى ان ناراً أوقدت هنا7 أحيانا كنت تلتقي بعائلة اتخذت من تلك الأشجار البرية خيمة لها نشرت على أغصانها الثياب وأواني المطبخ وعلقت طناجر الأكل بعيداً عن قطعان الماعز التي ترعاها7 لم يكن هناك اثر لطريق وكنا نجد صعوبة في اللحاق بسيارة الدليل7
والسرد عن كوبر لا يستفيض إلا عندما تريد أن تثير مسألة هامة عبر وصف وقائعي وميداني معاش لمأساة جماعة أو شعب7 في وادي عربة حيث كان من المفروض أن يجدا ما يزيد على ال200 خيمة آهلة، لم يكن هناك سوى عشرين، فقد ارتحلت الأغلبية الى وادي موسى قرب البتراء من أجل العثور على فرع لمواشيهم ويعودون الى دربا في الشتاء7
ويكسبهما هذا الاستفتاء الميداني الاجتماعي معرفة بطبائع بدو القبائل العربية الصحراوية الذين يتحلون بعزة نفس عالية ترى في احتياج الآخر نوعاً من الشحذ والتسول7 مما يجعل التعامل معهم صعباً ودقيقاً7 بالاضافة الى ان مثابرتهم على الانتقال من مرعى الى آخر وعدم ثباتهم في منطقة محددة كانا عاملين يشتتان العمل الميداني الاحصائي وبالتالي يعيق وصول المعونة اليهم7 وانسجاماً مع أرضية العمل وتلك الظروف الموضوعية الميدانية، انطلق الكوبران من خلال موقعهما وعلاقاتهما بوكالات الغوث وموظفي الاونروا في تنظيم وتسيير عيادات ومراكز صحية جوالة تدور بين الواحات والمضارب الصحراوية7 فتكتب باميلا: لاقت هذه الفكرة تجاوباً وحماساً بين ابناء القبائل الذين طالبونا خاصة بقابلات اذ ان حالات الوفاة بين المولودين وأمهاتهم كانت شائعة ومرتفعة7
زيارة الملك حسين
في كانون العام التالي 1961، يقوم الملك حسين في زيارة الخيم الصحية والمراكز الغذائية التي تمكنا من اقامتها في وادي عربة والكويرة ووادي الرم ورأس النقب وصل الملك مستقلاً طائرته الخاصة يرافقه الأمير حسن وكان في الثانية عشرة من عمره، تتابع كوبر سرد وقائع الزيارة الملكي، توجه إلينا بالكلمات التالية: ماذا تريدان مني أن أقوم به لدعم عملكما؟ ثم جلس وشرع يدون المطالب ويطرح الأسئلة ويسجل الملاحظات7 قبل أن يغادر المركز سألنا عن احتياجاتنا المستعجلة، فطلبنا خيمة كبيرة لعيادتنا في وادي الرم التي وصلتنا خيمتين بدلاً من واحدة بعد انقضاء 24 ساعة على زيارة الملك7 ثم شكرنا وأثنى على أعمالنا، مقدراً ظروفنا الصعبة قائلاً: ان البدو قوم يتحلى بكبرياء وشهامة7 ويأبى الاستعانة أو عرض عوزه بعدها سلمنا مغلفاً احتوى على 500 دينار مساهمة شخصية من قبله7
كانت باميلا كوبر تجمع خيوط الخبرة في حقل العمل الميداني الاغاثي وتتعرف على المفاتيح التي بها تطلق مشاريع العون والمساعدة ويتم تمويلها7 فبعد حصار بيروت ال82 ومجزرة المخيمات يؤسس دريك وباميلا كوبر جمعية العون الطبي للفلسطينيين المعروفة باسم ماب من عناصر عربية وبريطانية يقومون بتغطية طبية وصحية للمخيمات الفلسطينية في لبنان والضفة وغزة وينظمون فرق المتطوعين من اطباء وممرضين بريطانيين - من أشهرهم كانت الدكتورة بولين كاتينغ التي نقلت الى العالم عبر المنابر الاعلامية المتنوعة مأساة الفلسطينيين في مخيمات لبنان بعد حصار ال87 وكان لأحاديثها ومشاهداتها وقع فاعل في تأليب الرأي العام البريطاني لصالح القضية الفلسطينية - وقد نجح الزوجان في تنظيم حفلات ومشاريع عديدة لتمويل اقامة العيادات الطارئة والعادية ومراكز الصحة داعين اليها شخصيات بريطانية نافذة وقد حضرت أحداها ابنة عم الملكة دوقة كنت، الى جانب حفلات أخرى برعاية ولي عهد الأردن الأمير حسن والملكة نور7
واندلعت حرب ال 67 موقعة خسائر جديدة في الأراضي العربية، وقضماً اضافياً لأرض فلسطين ومزيداً من المآسي بين اللاجئين الفلسطينيين7 تحركت بوصلة أسفار دريك وباميلا كوبر باتجاه الشرق الأوسط من جديد7 كان هذا القرن العاصف بالأحداث يمضي ولم يكن ظهر بعد آي مؤشر يوحي بأن العالم يعرف أو يريد أن يعرف عن مأساة الفلسطينيين، عن فضيحة مئات الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات، بل في تجمعات أكواخ، مشردين منذ ربع قرن7
في بيروت 1982
في بيروت، صيف ال82، تلطخت روزنامة باميلا كوبر المشرقية بدماء حملت لون شقائق النعمان التي قطفتها ذات يوم على الطريق بين طرابلس وبيروت في الثلاثينات!
لبنان في ال82 تحول إلى خط ساحلي يسوده الكره والطمع والتلوث من شماله الى جنوبه، هنا، تتابع تدوين ملاحظاتها الاولي، تدو لك فكرة الدمار النووي امراً يصبح بامكانك استيعاب فظاعته7
في مذكراتها عن بيروت في حصار ال82 والتي تنهي بها غيمة من النسيان اجواء مدينة شعرت وكأنها في وحدة حال مع أحزانها وأطفالها وناسها الشوارع القذرة، والزوايا المجاورة للفندق ممتلئة بأكياس الزبالة التي لم تحرك بشكل نهائي تتآلف وسيارة محروقة كالفحمة السوداء في آخر الشارع والدخان المتصاعد من كومات النفايات مشاهد ترافقني كل يوم وأنا في طريقي الى سينما بلاديوم حيث أقيم مستشفى ميداني وصور الشهداء الملصقة على جدران الشوارع وواجهات المحلات وجوه شابة في ربيع حياتها7 ولكن أحيانا كثيرة في آخر ساعات النهار أو في ساعات الفجر الأولى، بعد أن أصغى الى اذاعة بي بي7سي7 والى تلك المحادثات التي لا تنتهي والى قبول القوى الدولية باستمرار المذبحة، أشعر بالألم واليأس وأرغب في العودة من حيث أتيت7
لكن أعمال ومهام اليوم التالي كانت تغرق باميلا في تجوال مكوكي بين مختلف مراكز الاستشفاء والعيادات الميدانية من بيروت الى جنوب7 في خراج صور تشاهد الجرافات الاسرائيلية تقتلع أشجار البرتقال والموز والحمضيات والزيتون عن جوانب الطريق لفتح جادات مرصوصة تسهل مرور دباباتها وناقلات جنودها7 وتتحدث عن الاعتقالات الاسرائيلية التي كانت تجري في المخيمات7 في عين الحلوة، كان الاسرائيليون ينادون الشباب بواسطة المذياع في ساعات الفجر الأولى، فيخرجون وقد تزود كل واحد منهم بقنينة ماء للشرب أثناء انتظار يدوم ساعات تحت شمس لاذعة7 يتم تقسيمهم الى ثلاثة فرق: المسلمون: المسيحيون والفلسطينيون الذين يتم اعتقال أكثريتهم في نهاية التحقيقات7 يصار الى حجز الأسلحة ما عدا المرخص لها ويبدأ بالتحقيقات رجال مقنعون يراجعون لفائف اللوائح7 | كان هذا في 7 تموز يوليو7
في 12 تموز تدون ما يلي: تشم في المدينة روائح الموت والمجارير والنفايات المتراكمة الآثنة7 ضف على ذلك روائح القنابل والقذائف الفوسفورية7
وتثور باميلا كوبر على شيطانية الحرب النووية اذ تكتب يوم 27 تموز يوليو 1982 كنت أعرف ان الاعجاب العالمي الذي كانت تحظى به تلك المدينة في الشرق الأوسط كان يجلب عليها تلك القذائف والقنابل الاسرائيلية المدمرة7 لكنني لم أكن أتوقع هذا النوع من الشرور الحربية والاختراعات الشيطانية |7 فقد اخبرنا مالك خوري، ابن حاكم مصرف لبنان سابقاً ميشال خوري وحفيد الرئيس اللبناني الراحل بشار الخوري وكان يعمل في التطوع الأهلي الاغاثي، أن المناشير التي كانت ترمى من الطائرات العسكرية عملت نوعاً من الأسيد السام والمواد الكيميائية7 منع الرئيس الاميركي ريغان استعمال القنابل العنقودية ولم يحظر من استعمال الألعاب الصغيرة السامة التي كانت ترمى في الأجواء بشكل قداحات للسجائر فيحصدها الأطفال ليلهوا بها7 فهل فعلنا ذلك في الأربعينات أيام الحرب العالمية الثانية؟7
وفي 26 تموز يوليو: جنون العيش هكذا7 كنا نصعد الى الطبقات العلوية ورائحة دخان القنابل تسبب لنا ضيقاً وشعوراً بالتقيؤ7 أرانب في أقفاص تتراكم حتى السماء7 ولكن هل كان اعقل النزول الى الأسفل والتعرض للهلاك أو لأن ندفن ونحن أحياء بين الردم والحديد والأسمنت؟!7
في الصباح التالي، كنت المخاوف تزول7 فالأخبار التي كان يحملها المتطوعون في عمل الاغاثة من الجنوب تبدد تعب الليلة الماضية7 تكتب كوبر: عادت الدكتورة ليليمور، طبيبة الأطفال الملحقة بالاونروا من صيدا وقالت بأن المخيمات شبه غير موجودة على سطح الارض، وقد تحولت الى مساحات مسطحة، وقد سحقتها الجرافات ومعها بقايا الجثث والأطراف البشرية7 لا لوائح ولا اثر لشيء والشباب جميعهم معتقلون7
وتتابع باميلا كوبر مناخ المدينة في كل مواسمه: بعد القصف كان لاعبو كرة القدم من الصغار يعودون الى ملاعبهم في الشوارع والبؤر المهدمة7 وعند تسجيل اصابة، كان اعضاء الفريق الرابع يرفعون اشارات النصر وكأنهم أبطال. بدأت مجموعة أخرى من الصبية اللعب في آخر الشارع، خلال القصف رأيت طفلاً رضيعاً يفجر بالبكاء ووالده يحاول تهدئة روعه7 26 تموز يوليو 782
في 30 تموز يوليو 82: تعيد الكتابة عن الأطفال والأولاد في بيروت الذين سيتذكرون طفولتهم وكانت كناية عن وقفة طويلة في طابور لملء القناني والصفائح البلاستيكية وجرها بعناء بين السيارات7
2 آب اغسطس 42: لقاء شامير وريغان سيجعل الأيام المقبلة جحيماً في بيروت الغربية7 جون دي فريتيس مسؤول في الاونروا يقول ان مياه الآبار منخفضة الى درجة ان مياه البحر تتسلل قاع تلك الآبار7 والخطر أن مياه البحر ملوثة7 الدكتوره ليليمور أمضت بعد الظهر تحقن خزانات الاونروا بالمطهرات7 كان وجهه تعباً في المساء7
المدينة كعائلة واحدة7 لكن الأيام تمضي وبيروت تتقلص7 5 آب اغسطس 82: أصيبت صحيفة اوريون لو جور والماندي مورنينغ لم تصدر اليوم الشوارع شبه خالية والمحلات مقفلة7 بعض الاطفال يبيع سجائر المارلبورو والكنت والجيتان على بسطة7 سيارات الاسعاف لم تهدأ صفاراتها7 جبهة الحرب تضيق وتكاف تطبق عليها7 وصل الاسرائيليون الى ميدان سباق الخيل7
9 آب اغسطس 82: الأيام تتتابع وروائح الشوارع تزداد سوءاً ونتئاً وهكذا حمامنا7 مواسير المياه انفجر بعضها وتحطم البعض الآخر7 الطوابير تزداد طولاً امام المراكز التي ما زالت تعمل7 لا اعرف من أين يأتي الناس بالصبر والصمود والروح الطيبة والنكتة7
كان لا بد ان تنتقل اليها العدوى: التحمل الى آخر حدود الطاقة وأحياناً كانت تضاف اليها طية اكسترا7 في اليوم التالي، في 10 آب اغسطس 82، تنظم مسيرة نسائية مؤلفة من النساء الأجانب المتطوعات والصحافيات والعاملات في وكالات الاغاثة وجميعات العون تندد بالحصار التمويني الاسرائيلي الذي يطوق بيروت وعبر المذياع تكرر كوبر: نحن على استعداد بأن نشهد امام العالم والمحاكم الدولية بأن الغذاء وماء الشرب والكهرباء والبنزين والأدوية مواد معدومة7 المياه في القساطل المحطمة تذهب ضياعاً ولا ماء لتذويب حليب البودرة للأطفال7 نحن على استعداد بأن نشهد انه ليس هناك وقود لتشغيل المحركات في المستشفيات وان ثلثي الخسائر هي من النساء والأطفال المدنيين777 وترتفع الشعارات مكتوبة بلغات عدة7 الصحافة الأجنبية واكبت المسيرة والاسرائيليون على خط التماس يحاولون مغازلة المتظاهرات7 دمي فائر في عروقي7 لا اريد ان اغادر المكان، أريد أن اصرخ للعالم ما اشهده في هذه المدينة7 ينتهي عمل اليوم7 فهل حقاً ينتهي؟ في اليوم التالي، بعد ان أصيب مبنى المستشفى في منطقة كليمنصو وخزانات ماء اليونيسيف7
رأت باميلا كوبر فتاة صغيرة جداً بحجم القشة7 شعرها الفوار المجعد محبوس بعقدة في وسط الرأس7 كانت تتصارع وصفيحة ماء شرب من البلاستيك الأحمر. تمشي بضع خطوات لترمي بحملها الثقيل على الأرض. ثم تعود لرفع الصفيحة وتقوم ببضع خطوات للتوقف ثانية7 وفي احدى المحطات، فتحت غطاء الصفيحة، رفعتها الى فمها وشربت ماء7 عندها تضرعت الى الله بأن تكون المطهرات التي حقنت بها الدكتورة ليليمور خزانات مياه الاونروا قد وصل بعض منها إلى ماء تلك الصفيحة الحمراء7
لم يمر هذا ال مشهد مرور الكرام7 كان بالنسبة الى باميلا كوبر كتلك القطرة من الماء التي يفيض بها الاناء كله7 افتتحت صاحبة صفيحة البلاستيك الحمراء كتاب غيمة من النسيان، سيرج باميلا كوبر، الذي يصف فصله الأول طفولة ابنة قسيس ايرلندن تدللت في معشر بريطانيا الارستقراطي في بداية هذا القرن 1910 ويصفل في فصله الاخير طفولة فتاة صغيرة تتصارع وصفيحة ماء من البلاستيك الاحمر وتنتظر ساعات طويلة في طابور طويل لتملأها بماء للشرب خلال حصار بيروت في نهائيات القرن 1982!
لهذا كان كتاب باميلا كوبر غيمة من النسيان أكثر من سيرة شخصية7 من خلاله، تستقرئ سيرة قرن يقف على عتبة الانتهاء777
بالنسبة الى باميلا كوبر أهمية تلك السيرة تكمن في انها كانت من عداد المحظوظين الذين فتحت امامهم الفرصة لاغاثة المنكوبين ومساعدتهم في محنهم، فكانوا من الذين انعم عليهم معرفة أهم عبر ودروس في الحياة7 كما كتب في خاتمة الكتاب7
| معلومات لم تنشر في الكتاب
باميلا كوبر في سطور
- ولدت باميلا كوبرا او الفيكونتسة روتفين سابقاً في عام 71910 ابنة القسيس الايرلندي كانين فلاتشير الذي شغل موقع راعي الجالية الانجيلية المهاجرة في سان ريمو على الحدود الفرنسية - الايطالية بين الحربين العالميتين7
- في آخر عام 1939 تزوجت من الفيكونت باتريك روتفين ابن اللورد غاوري، الحاكم البريطاني لاوستراليا حتى استشهاد ابنه في الصحراء الغربية فعينته الملكة ماري رئيساً للشعبة الامنية والحرس في قصر وندسور7
- بعد عشر سنوات على وفاة اليكونت روتفين الذي انجبت منه ولدين، غيراي وماليز، تزوجت الفيكونتسة من المايجور دريك كوبر، ضابط في الجيش البريطاني في اخر عهد الانتداب البريطاني في فلسطين7
- في العام 1935، قامت بسفرة حج الى القدس وتجولت في مختلف دول المنطقة، بيروت، دمشق7 عمان والقاهرة7
- في نهاية عام 1939 عادت برفقة زوجها الى المشرق العربي وأقامت في القدس ثم انتقلت الى القاهرة فبغداد حيث تعاونت وفيرايا ستارك على انشاء تنظيم اخوان الحرية دعماً لسياسة الحلفاء وترويجاً للمجهود الحربي7
- في العام 1960 وعبر وكالات الاغاثة الدولية كالاوكسفام والصليب الاحمر الدولي وجمعية "Save the children fund" قام المايجور كوبر وزوجته باميلا في انشاء عيادات ومراكز توزيع غذاء بين قبائل البدو في جنوب الاردن7
- العام 1962، ساهما في عمليات الانقاذ والاغاثة خلال الزلزال الذي ضرب ايران7 كان المايجور عاملاً في الصليب الأحمر الدولي7
- بعد حرب ال67، تضاعفت زياراتهما الى الشرق الأوسط وانخرطا في العمل مع الفلسطينيين في مخيمات لبنان والاردن والأراضي الفلسطينية المحتلة بعد ال 67 حيث ركزا على بناء هيكلية صحية وطبية توفر الاحتياجات الأسرية في المخيمات وجوارها7
- بعد العمل على الساحة اللبنانية في صيف ال82 وفي ظل الحصار الاسرائيلي لمدينة بيروت، عاد المايجور وباميلا الى بريطانيا وأسسا جمعية العون الطبي للفلسطينيين التي تبادر الى فتح حملات تطوعية تضمم ممرضين وأطباء بريطانيين للعمل في مخيمات لبنان والضفة وغزة7


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.