مدينة أعمدة اكتشفها العلماء اخيراً تحت الرمال في مناطق الربع الخالي. ما اسم هذه المدينة، ولماذا عمدت جهات اجنبية الى التعجل في نسبتها والتخلي عن التحفظ العلمي؟ في هذا التحقيق المصور وقائع الاكتشاف وتعليقات العلماء السعوديين عليه. اكتشف علماء الآثار في منطقة شزر، مدينة مطمورة تحت الرمال، عند "الضفاف" الجنوبية للربع الخالي. وقبل التحديد العلمي لاسم تلك المدينة، قال علماء عرب انها "ارم ذات العماد" المذكورة في القرآن الكريم، وتصاعدت اصوات اجنبية تنسب الآثار المكتشفة الى التاريخ التوراتي وتقول انها بقايا مدينة "عبر" أو "أوفير"… ما يعتبر استمراراً لخط متسرع واحياناً نتيجة افتراض مسبق يصرّ عبثاً على ربط تاريخ جزيرة العرب بالحكايات التوراتية المتداولة. أجهزة فضائية بدأت معالم الاكتشاف في العام 1984 وأنجزت في وقت سابق هذا الشهر. واستعان فريق العلماء بأجهزة رادارية خاصة موضوعة في مكوك فضائي، واستطاعت هذه الاجهزة مسح التضاريس الارضية بواسطة القصف الالكتروني المتواصل، فتبين ان تحت الرمال آثاراً لمدينة او مدن. وحين بدأ التنقيب وظهرت معالم الآثار، لاحظ العلماء كثرة الأعمدة التي تميز المدينة، وربطوا بينها وبين "ارم ذات العماد" المذكورة في القرآن الكريم، كون المدينة المكتشفة انتهت نهاية مأسوية اذ كانت مبنية فوق جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية. اللبان يغير الآراء لكن اكتشاف بقايا مباخر ولبان على الطرق المؤدية الى المدينة المكتشفة دفع بعض العلماء الى استبعاد ان تكون المدينة هي "ارم ذات العماد" وتعززت نسبة المدينة المكتشفة الى "أبار" أو "وبار" التي ورد ذكرها أكثر من مرة في الشعر الجاهلي. وعلى رغم اهمية الاكتشاف من الناحية التاريخية، فهو لا يعدو كونه حلقة في سلسلة كشوف اثرية، سبق للمملكة العربية السعودية وللدول المجاورة لها ان حققتها ونشرت نتائجها في المجلات العلمية المتخصصة. لماذا الاحكام المسبقة؟ وربما كانت الاحكام المسبقة سبباً لپ"الضجة العالمية" التي اثيرت حول اكتشاف مدينة "وبار"، لذلك قال وكيل وزارة المعارف السعودية المساعد لشؤون الآثار الدكتور عبدالله حسن المصري: "ان اكتشاف مدينة مطمورة تحت الرمال في صحراء الربع الخالي لا يمثل في حدّ ذاته كشفاً على درجة كبيرة من الأهمية، فقد سبق للبعثات الأثرية في المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج ان قامت باكتشافات مماثلة خلال الخمس عشرة سنة الماضية. وأهم مثال على ذلك، مكتشفات المسح الأثري الشامل في المملكة التي اسفرت خلال عامي 1974 و1975 عن اكتشاف بقايا اكثر من مدينة واحدة على مشارف الربع الخالي الشمالي الشرقي". وقال عميد كلية الآداب في جامعة الملك سعود الدكتور عبدالرحمن الانصاري معلقاً على الاكتشاف الأثري الجديد: "ان منطقة الربع الخالي من المناطق التي اغرت كثيرا من الباحثين بتصوّر وجود حضارات عاشت في هذه المنطقة منذ ملايين السنين، وذلك تبعاً للعمق المعرفي لهؤلاء واولئك… فالفريق الاول يربط بين الربع الخالي وحضارة قوم "عاد"، وهؤلاء هم العرب الذين جعلوا مدينة "ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد" مدفونة في هذا الجزء من الجزيرة العربية، وان كانت الدلائل العقلية لا تنطبق على هذا الاتجاه… كما ان اليهود ربطوا بين التجارة التي كانت في عهد نبي الله سليمان، عبر البحر الأحمر الى جنوب الجزيرة العربية، وبين موقع غير معروف يسمّى "عفير" او "عبر". أضاف الانصاري: "في الجزيرة العربية اكثر من موقع يمكن ان يكون بهذا المسّمى نفسه، ولكن ربط هذا المكان بجنوب الجزيرة العربية هو محاولة لربط هذه المنطقة بمسيرة التاريخ التوراتي. وإذا ما سارت هذه المنطقة في ركاب التاريخ التوراتي فإن النتائج تكون مرتبطة بالمقدمات". حمد الجاسر علاّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر، تابع الموضوع باهتمام وأثنى على التحفظ العلمي الذي ابداه كل من المصري والانصاري. ودحض الشيخ الجاسر نسبة المدينة المكتشفة الى "اوفير" او "عبر". ومما قاله: "ورد ذكر اوفير في اسفار العهد القديم في مواضع يُفهم من احدها انه الابن الحادي عشر من ابناء يقطان يقطن الذي لم يتضح للباحثين هل هو اسم رجل او اسم قبيلة او اسم موضع. وورد انه اسم مكان اتجهت اليه سفن سليمان مع سفن الفينيقيين من "عصيون جابر" على رأس خليج العقبة لجلب المعادن النفيسة … والذي اراه ان خبر "اوفير" الوارد في كتاب العهد القديم من الاخبار التي هي بحاجة الى التثبت والتمحيص، وانه لا ارتباط بين اوفير وبين "أُبار" المدينة المكتشفة الواقعة في قلب منطقة بعيدة عن السواحل التي لا تصل اليها السفن، وليست على طرق القوافل القديمة الممتدة من شمال الجزيرة الى جنوبها". شهادة الشعر الجاهلي المدينة المكتشفة، يقول الشيخ حمد الجاسر، انها "أبار"، ويشرح ذلك مستنداً الى الشعر الجاهلي: "ان اسم "أبار" و"وبار" هو الاسم الصحيح للموضع الذي جرى فيه الاكتشاف، وتسهيل الهمزة بقلبها واواً امر معروف في اللغة العربية، وكتب اللغة وكتب التاريخ أوضحت هذا بما لا يتسع له التفصيل. وفي الشعر العربي القديم ما يدل على ان "وبار" كانت معروفة قبل بدء تدوين التاريخ، فالأعشى، وهو شاعر جاهلي، يقول: وأهلُ "جوّ" أتى عليهم فأفسدت عيشَهم فباروا ومرّ دهرٌ على "وبار" فهلكتْ جهرةً و"بارُ" ومثله النابغة الذبياني الذي يصفها بالنخيل فيقول: فتحملوا رحلاً كأن حمولهم دومٌ ببيشة أو نخيلُ "وبارِ" وقال بشر بن أبي خازم الأسدي، وهو جاهلي أيضاً: وأنزل خوفنا سعداً بأرض هنالك إذ نجير ولا نجارُ وأدنى عامر حياً الينا عقيل بالمرانة والپ"وبارِ" إذن، "أبار" و"وبار"، لا "عبر" و"أوفير"… و"عبر" من دون شك تحريف حديث للاسم "ابار"، وما أكثر ما حرّف من اسماء المواضع العربية في زمننا هذا بسبب انتشار اللغات الاعجمية بيننا". اكتشاف مهم تلك هي الآراء في المدينة المكتشفة، والحال انه اكتشاف مهم من الناحية التاريخية والعمرانية يؤكد ان الربع الخالي ظاهرة جيولوجية لها عمق تاريخي، واكتشاف بهذه الأهمية هو ما دعا بعض الجهات الأجنبية الى محاولة مصادرته ونسبته تعسفاً الى مقولاتها المعهودة عن الحكايات التوراتية، ما يناقض التحفظ الواجب في علم الآثار، كما في غيره من العلوم.