تثقلنا الدنيا بفواجعها، وتصدمنا في كل مرة بحقيقتها، لتذكرنا بأننا في دار ممرّ وأن الآخرة هي دار القرار. فألم الفقد وتزاحم العبرات واحتقان الغصات لا يوازيه إلا الأجر والمثوبة من رب العباد فهو الكفيل بجبر الأحزان ومواساة الخاطر. رحل عن دنيانا روح عزيزة، رحل والد زوجي الشيخ عبدالله بن عثمان النذير؛ الرجل الذي لم يكن مجرد عمود أسرة، بل كان قلبها النابض وضياءها الوارف. ترك في حياتنا بصمةً من العطاء، وسيرةً عطرة لا يبهت أثرها مع الزمن. كان يردد دائمًا أبياتًا يوقن بحقيقتها، كأنه يستعد بها للقاء ربه: نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا كذا الدنيا نزولٌ وارتحال لكنني لم أدرك معنى هذه الأبيات إلا بعد رحيله رحمه الله، إذ غدت كلماتها صدىً يفسّر يقينه بحقيقة الدنيا وزوالها. لقد كان والدًا للجميع، لا لأسرته وحدها. يسجّل له التاريخ مواقف نبيلة، وتشهد له السنون بنُبل الأخلاق وطيب المعشر. كان أبًا لليتامى والمساكين، عظيم العطايا، نبيل السجايا، لا يردُّ محتاجًا، ولا يخذل طالبًا للعون. كان حضنًا يتّسع للجميع، وصوتًا يبعث الطمأنينة، وقلبًا يفيض حبًا لا يعرف الحدود. كان – قدس الله روحه – كريم النفس، رحب الصدر، يفيض خيرًا وسماحة. يلاعب الصغار بمرح الأبوة، ويجلّ الكبار بوقار الحكمة، ويعامل الجميع بمعيار الإنسانية وحدها؛ فلا يُفرّق بين محسنٍ ومقصّر. كان ملاذًا للنفوس، ومرسى للأمان، وملجأً يسكب الطمأنينة في القلوب. رحل بصمتٍ ووقار، كنسمةٍ باردةٍ هادئةٍ عبرت حياتنا، ورحل إلى الدار الآخرة. غير أن عزاءنا أنه بين يدي ربٍّ غفور رحيم، في جنات النعيم، في الفردوس الأعلى، حيث الراحة الأبدية التي وعد الله بها عباده الصالحين. لقد علّمنا دروسًا لا تُنسى: أن العفو عن الناس رفعة، وأن نقاء الصدر هو الطريق إلى سلام الروح. عاش حياته بسلامة نية وصفاء قلب، لم يفسح مكانًا للتباغض أو الضغائن، فكانت حياته مدرسةً في التسامح والرحمة. رحيله ترك فينا فراغًا واسعًا لا يملؤه أحد، وحزنًا عميقًا لا يُعوضه شيء. لكن يبقى الدعاء هو صلتنا به، وتبقى ذكراه نورًا يضيء حياتنا. عزاؤنا أن الموت حق، وأن لنا معه موعدًا آخر، في دار الخلود حيث تتلاقى الأرواح الطيبة رحمك الله يا أبا عثمان، وجعل مثواك جنان الخلد، وأجزل لك المثوبة بما قدّمت من خير وعطاء، فقد خلفت زوجة فاضلة وأما رؤوما بارة بك محسنة لعقبك، وأبناء مباركين نحسبهم كذلك والله حسيبهم. سائلين المولى أن يجعل ما أصابك قبل وفاتك من مرض ومعاناة رفعة لك وكفارة لخطاياك. اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك، في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.