عندما تشاهد الأمر بشكل مبالغ فيه وأنت تتجول في أحياء مدننا الكبرى، يلفت انتباهك احتلال المتسولين لأهم المواقع والأماكن، فتراهم أمام المساجد والمقاهي، في الشوارع والممرات الرئيسة، في مداخل المحلات التجارية وغيرها من الأماكن التي يرونها هم مواقع إستراتيجية تُدِر عليهم أموالًا أو حاجات أساسية مختلفة من أكل وشرب ولبس. ويتفنَّن المتسوِّلون في محاولة جلب تبرعاتِ المارِّين وهباتِهم باستخدام أساليب دعائية خاصة تهدف إلى استمالة قلوبهم وتكسب تعاطفهم؛ فتراهم يدعون للشَّيخ أو العجوز بدوام الصحة والعافية، وللعامل البسيط بالتوفيق، وللطالب بالتفوق والنجاح الدراسي، وللعزباء بالسِّتر وقضاء الحاجات.. وهكذا أدعية، ولكن مهلًا.. فهذه الأدعية لم تعد مجدية بالنسبة إلى مواطن أثقلت كاهله تقلبات الدَّهر وصروفه من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع قيمة فاتورة الكهرباء إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والأسرية. والمقلقُ في الظاهرة أنها بعدما كانت تقتصر على كبار السن العاجزين وذوي الاحتياجات الخاصة اتسعت دائرتها لتشمل النساء والرجال على اختلاف أعمارهم، ولا يتوانى المتسولون في ابتكار عدد من السلوكيات التي توحي بعوزهم وحاجتهم كارتداء ملابس رثَّة ومتسخة والتظاهر بالمرض أو العجز كأن يضع المتسول وصفة طبية أمامه، كما قد يستنجدون بإعاقتهم الحقيقية أو بإعاقة مصطنعة إلى جانب استغلالهم للأطفال، كل ذلك يصب في هدف واحد وهو الحصول على مزيد من المال. وتشهد ظاهرة التسول نفور المجتمع وعدم تقبله أو تعاطفه معها يومًا بعد يوم، فأصبحنا -مثلًا- لا نتألم لرؤية شيخ معاق يتسول، ولا نتعاطف مع أم تستجديك دفع جزء من تكاليف عملية جراحية لأحد أبنائها، ولا نبالي بنظرات طفل يسألك إعطاءه ثمن رغيف خبز؛ ذلك أننا ألفنا هذه الظاهرة وتعايشنا معها، وكما يقول المثل الفلسفي: «إنَّ المعاينة المستديمة لمشاهد البؤس تقسي القلوب» فعلًا، فقد تحجرت وقست قلوبنا لمناظر كان حريٌّ بها التعفف والستر من كل ما يؤذي النفس ويحط من الكرامة الإنسانية، خاصةً إذا ما علمنا أن عددا من المتسولين هم في حقيقة الأمر محتالون وانتهازيون يمتهنون التسول لزيادة التَّربح والكثرة في الأموال، وأن منهم من يحيا حياة كريمة أو حتى حياة الرفاه حسب ما تكشفه بين الفينة والأخرى تقارير وتحقيقات أمنية وأخرى إعلامية. تحضرني هنا قصة تعود إلى عهد سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما كان يتفقد هو وخادمه أحوال المدينة، إذ اقتربا من أرملة كانت تتظاهر بطهو الطعام لأولادها وتلهيهم إلى أن يغلبهم النعاس فيناموا، والذي كان في حقيقة الأمر عبارة عن حجارة تغلي داخل قدر، ولم تفكر هذه الأرملة في طرق باب الجيران وسؤالهم طعامًا لأبنائها على الرغم من حاجتها وعوزها، إلا أنها فضلت التعفف على ذل السؤال. إلى كل من استسهل طريق التسول نقول إن ديننا حثَّنا على العمل وضرورة إتقانه مصداقًا لقوله - عز وجل: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» كما حثنا على الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يحط من كرامتنا الإنسانية أو يسهم في إذلالنا؛ ذلك أننا مأمورون بكسب رزقنا من عرق جبيننا.