ماذا نَعرف عن الكون وعن الماضي وعن أنفسنا؟ هل ما نعرفه هو واقعيّ وغَير قابل للشكّ أو النقص؟ هل بإمكاننا التوصُّل إلى الحقيقة وبأيّة شروط ومعايير؟ وهل الحقيقة ناجزة وثابتة وفي منأىً عن ناموس التطوُّر والتغيير؟ أسئلة تاريخيّة إشكاليّة طالما أَربكتِ الفكرَ الفلسفيّ منذ بداياته الإغريقيّة وما قَبل الإغريقيّة، خصوصًا مع الفلسفة المصريّة القديمة وحتّى الآن، من دون أن يَجِدَ لها جوابًا حاسمًا ونهائيًّا، فيما يوحي لنا المدى الهائلُ من الجهل، الذي كشفته لنا خطواتنا العملاقة في المعرفة، أنّنا ما زلنا في بداية الطريق. ففي الآونة الحديثة تعلَّمتِ البشريّةُ قدرًا هائلًا عن الكون وعن الماضي وعن ذاتها، ومنذ القرن التّاسع عشر كُشف النّقاب عن آلافِ السنين من التاريخ ومن تاريخ الحضارات العظيمة التي سبقتِ العصر الكلاسيكي، وقَبل ذلك قصّة نشوئها وارتقائها. ومنذ بداية القَرن العشرين تحقَّقت اكتشافاتٌ مذهلة عن الكون المادّي، حتّى بتنا اليوم نَقطن عالَمًا مُختلفًا عن أسلافنا في القرن التّاسع عشر، وأكثر ثراءً. بيد أنّ ثمّة حقيقة ملحوظة صاحبتْ هذه التطوّرات في رأي أنتوني. ك. غرايلنغ في كتابه «حدود المعرفة» (ترجمة إبراهيم قعدوني، دار الساقي، 2025). فلئن اعتقدنا يومًا، كما يقول في التوطئة لهذا الكتاب «أنّ كلّ تقدُّم في معارفنا قلَّلَ من جَهلنا»، فقد بيَّنت لنا القفزاتُ المعرفيّة الأخيرة مدى ضآلة ما نعرفه، حتّى ليبدو أنّنا أجهل كلّما ازددْنا عِلمًا، على عكس الاعتقاد السائد بأنّ المعرفة كانت تُقلِّل من مدى جَهلنا. فعلى الرّغم من الكثير ممّا تعلّمناه، والكثير من الإتقان الذي اكتسبناه، ما زلنا نرى أنّ حدود المعرفة بعيدة المنال، وأنّنا لا نزال في بداية رحلتنا نحو الحقيقة، فنحن لا نزال مُبتلين بالكثير من البدائيّة في تفكيرنا وشعورنا. لا نزال نخوض الحروب، ونَتشاجر فيما بيننا، ونُصدِّق الترّهات، ونُبدِّد حياتنا القصيرة في التفاهات. وقد سعى غرايلنغ إلى الإجابة عن أسئلة المعرفة الإشكاليّة في ثلاثة مجالاتٍ حاسمة على تخوم المعرفة وهي العِلم والتاريخ وعِلم النَّفس، آخذًا في الاعتبار أنّ لكلّ مرحلةٍ من مراحل نموّ المعرفة على مداد التاريخ البشري حدودَها. في هذا التوجُّه التاريخي تقدَّمت المعرفة الكيفيّة على المعرفة الماهيّة، ويجدر بنا القول إنّ أسلافنا عرفوا الكثير ليس لآلاف السنين بل لملايين السنين. أقدم الأدوات الحَجَريّة تعود إلى 3.3 ملايين سنة - وقد بنوا الملاجئ، واهتدوا إلى إشعال النار، وأبدعوا فنّ الكهوف، ودجَّنوا الحيوانات والنّباتات، وشقّوا قنواتِ الريّ، وصبّوا البرونز والنّحاس، وصهروا الحديد. وفي مرحلةٍ ما من التاريخ سعى أسلافُنا إلى تحقيق المعرفة الماهيّة، حيث سادَ الاعتقادُ بأنّ لكلّ شيء متحرّك فاعِلًا يُحرّكه من داخله أو من ورائه، حتّى أنّ الفيلسوف طاليس افترَض أنّ «كلّ شيء مملوء بالأرواح»، الأمر الذي شكَّل أساسًا للمُعتقدات الدّينيّة. وقد اعتُبر طاليس أوّل الفلاسفة، لأنّه استندَ إلى الملاحظة والعقل في اعتباره الماء المبدأ الذي تتكوَّن منه الموجودات. إلّا أنّ التساؤلات التي طَرحها النموُّ الهائل في المعرفة لم تَقترح سوى إجاباتٍ مؤقّتة، الأمر الذي شكَّك في إمكانيّة معرفة أيّ شيء على وجه اليقين. إلّا أنّ المؤلِّف يَعتبر أنّ العِلم أعظم إنجاز فكريّ للبشريّة، لأنّ العُلماء لا يدّعون معرفتهم بل يَدعمون نظريّاتهم بالمنهج العلمي ويُخضعونها للاختبار والتقييم الصارمَيْن، وقد ميّزَت هذا النَّوعَ من المسؤوليّة مختلفُ الاستقصاءاتِ المعرفيّة الجادّة. وفي هذا السياق يُواجِه المؤلِّف المشكلات المشكّكة والتحذيريّة التي تَكتنف الاستقصاء. ومنها مشكلة الهويّة الأحاديّة، ومشكلة المعايير، ومشكلة الحقيقة التي نتوصّل إليها من خلال الاستقصاء، هل هي يقينيّة أو فرضيّة من دون أن تكون يقينًا؟ وهل من تأثيرٍ للمُراقِب فيما نتحرّاه؟ والمؤلِّف لا يَعني هنا بنظريّة المعرفة المعنى الفلسفيَّ الضيّق، بل يعني استكشافَ المُعتقدات شديدة الصدقيّة جيّدة الإسناد التي نُسمّيها بشكلٍ غَير رسمي «المعرفة»، وفهمَها. كذلك يَنشغل الكتابُ بالمعرفة والجهل فيما يتّصل بالعِلم والتاريخ وعِلم النَّفس. ما الذي نعرفه في مبادئها، وما الذي اعتقدنا يومًا أنّنا عرفناه؟ ما حال معرفتنا بها الآن؟ واللّافت رهان الكِتاب على حقول العِلم التي من المقدَّر أن يكون لها كبيرُ الأثر على البشريّة، ومن بينها العلاج الجيني والهندسة الوراثيّة والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. لكنّ المؤلِّف حَصَرَ بحثَهُ في مجالاتٍ ثلاثة: العالَم والماضي والعقل؛ فوجَد أنّ الجزءَ الأكبر من الفيزياء وعِلم الكونيّات، وفقًا لِما هو بين أيدينا، إنّما يعود إلى عهدٍ حديث جدًّا، فقد أُحرزت أوجُهُ التقدّمِ جميعُها في غضون المئة سنة الماضية. والمُثير للدهشة تعذُّر الوصول إلى ما يزيد على 5% من الواقع المادّي. لقد مضى أقلّ من قرنٍ منذ أن وصلتِ البشريّةُ إلى تصوُّر مُثبت بالأدلّة لتاريخ الكون من الانفجار العظيم إلى الوقت الحاضر - وهو إنجاز هائل - إلّا أنّ الألغاز تُثير بالفعل احتمالاتٍ أكثر غرابة كأن يكون الكون مجرّدَ واحدٍ فقط من بين العديد من الأكوان. ومع أنّه كانت هناك معرفة واسعة إلى حدّ ما، للعصور القديمة الكلاسيكيّة وما تلاها حتّى اليوم، إذ إنّها نَجت ووصَلَنا تاريخُها، سواء في البقايا الماديّة أم في بعض أدبيّاتها؛ غير أنّ ما كان معروفًا، إنّما كان قائمًا على افتراضاتٍ في القصائد الهوميريّة، أو في العهد القديم للمسيحيّة وأساطيره، وفي زعمه أنّ التاريخ يمتدّ إلى ما قَبل خلْق الكون بستّة آلاف سنة سبقت صَوْغ العهد القديم. إلّا أنّ المساعي الأكثر منهجيّة للحفر عميقًا في ذلك الماضي التاريخي بَدأت في أواخر القرن الثامن عشر وبصورةٍ رئيسيّة في القرن التّاسع عشر، وعندها بَدأ هذا الماضي السحيق في الظهور. ففي العام 1798 جلبَ نابليون معه إلى مصر عددًا كبيرًا من العلماء في المجالات العلميّة المُختلفة، وقد دَرس هؤلاء تضاريس البلد وتَرجموا النقوش الهيروغليفيّة، وبحلول العام 1828، صَدرت موسوعةُ «وصف مصر Description de l.Egypte» باللّغة الفرنسيّة وقوامها 23 مجلّدًا. وتتالت الأبحاثُ في الألغاز التي تسبَّبت في انهيار حضارة العصر البرونزي سنة 1200 قَبل الميلاد، ما أدّى إلى إغراق حضارات شرق البحر المتوسّط في عصر الظلمات. معرفتنا بالدماغ ضئيلة جدا المُلاحَظ أنّ هذه الاكتشافات تتّصل بالستّة آلاف سنة الأخيرة على الرّغم من أنّها تَفتح الطرق التي تؤدّي إلى نحو اثنَيْ عشر ألف سنة منذ بداية العصر الحَجَري. قَبل ذلك كان تاريخ الإنسان العاقل يبدو أكثر غموضًا كلّما حاولنا الولوج في الماضي السحيق. إزاء هذه التطوُّرات والتساؤلات المُربِكة التي طَرحها الفيلسوف البريطاني غرايلنغ في مُغامرةٍ فكريّة غير مسبوقة عَبْرَ عوالم العِلم والتاريخ وما يلفّها من غموض، تَظهر بجلاء تلك المُفارَقة المعرفيّة العويصة «كلّما ازددْنا معرفة، اتَّضح أكثر مدى جَهلنا». ولكن ماذا عن مجال البحث الثالث، عِلم الدماغ وعِلم النَّفس؟ معرفة أنفسنا وعقولنا ووعينا وطبيعتنا البشريّة؟ يَرى المؤلِّف أنّه على الرّغم من كلّ التفاني الذي أولته الفلسفةُ والفنّ والأدب لمسألة مَن نحن وما نحن عليه، فإنّنا لا نزال لا نَفهم تمامًا، بل ربّما لم نَفهم بَعد نصفَ فهْم، الطبيعة البشريّة وعِلم النَّفس، ناهيك بالواقع المادّي المعقّد الذي يكمن وراءه، أي الدماغ. فدراسات الدّماغ في حدّ ذاتها قد لا تقول كلّ ما نرغب في معرفته عن الطبيعة البشريّة وعِلم النَّفس، بينما يُقدِّم علم النَّفس التطوُّري، وفرعه الريادي الأكثر شمولًا، عِلم النفس الاجتماعي البيولوجي، منظوراتٍ مُثيرة للجدل، مثلما هي الحال مع عِلم النفس العصبي، لأنّ كلا العِلمَيْن لا يزال في طور النشوء، ولا تزال أساليبهما وعدّتهما في مرحلة التطوُّر. في رأي المؤلِّف أنّ البشريّة على الرّغم من الاكتشافات المُذهلة التي حقَّقتها منذ بداية القَرن العشرين، لم تَعرف سوى القليل جدًّا عن الدماغ. فالأسئلة الرئيسيّة عن العقل وعلاقته بالدماغ وطبيعة الوعي ومصدره، لا تزال صعبة على الإجابة كما كانت دومًا، ولم يُحرِز عِلم الدماغ والفهْم الفلسفي للعقل سوى تقدُّمٍ بطيء جدًّا وضئيل. إنّ الدماغ هو مركز الوعي والعقل والحياة العقليّة وسببها ونظام تشغيلها ومقرّها، ولا صدقيّة لوجهات النّظر البديلة التي تَفصل بين العقل والدماغ كمادّتَيْن مُنفصلتَيْن، ولا تزال أحدث التقنيّات لتطوير نشاط الدماغ بدائيّة. لكن مع تأكيد غرايلنغ على أنّ كلّ شيء في الكون فيزيائيّ، غير أنّ الدماغ لن يُمثِّل قصّةَ العقل بكلّيّتها، ولهذا فإنّ العقل كيانٌ نسبيّ ولا يُمكن فهمه من خلال ما يَحدث داخل الجمجمة فقط. «حدود المعرفة» كتابٌ ثريّ بالأفكار والمعلومات والاستنتاجات، يُحرِّض على التفكير، ويُنير الكثير من الخفايا المُظلمة في تاريخ الإنسان على الأرض وكفاحه من أجل امتلاك الحقيقة، وما يَعترضه من عقبات. كتابٌ يُواجِه مؤلِّفُهُ جدّيًّا المشكلات التي تُعيق أو تُحِدّ من الاستقصاء المَعرفي، باعتبارها بنات المعرفة، وهي ما يعضدها وما سيعضدها في اكتشافها للمجهول وتجاوزها للحدود التي تَختلف عن الحدود الفاصلة بين المناطق والجدران، كونها تنطوي على الدعوة لاجتيازها والاندفاع نحو المُطلَق. *كاتب من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.