أحيانًا تموت الفكرة تحت جلبة النصيحة، وهمس المراجعة، وابتسامة الناقد الذي يقول لك بنبرة خبير: «هذا أجمل لو عدّلناه قليلًا...». لكن يا صاحبي، بعض «القليل» هذا... هو روح الفكرة نفسها. الفكرة في بدايتها لا تعرف البروتوكول. فوضوية، تعرج في الطريق، تتلعثم، تنحرف عن السياق، تضيف كلمة لا داعي لها، وتسهو عن كلمة كان يجب أن تكون. ومع ذلك... تشعر أنها تضع يدًا على قلبك مباشرة، قبل أن تضعها على الورق. هي تعرف طريقها... حتى لو لم تعرف قواعد الطريق، ثم تأتي لحظة الإحسان القاتل. تُخرج فكرتك من مخبئها الدافئ إلى دائرة الضوء، تعرضها -من باب الحرص - على العقلاء: أبو خالد ذو العين القانونية الحادة، الدكتور جابر الذي يرى اللغة تحت المِجهر، الصديق الثالث الذي يعرف أين تُقفل الجملة، وأين يُفتح النص. كلهم أحبّوا الفكرة... فقرّروا أن يجعلوها أفضل. لكن يا صديقي، ليس كل أفضل... أفضل. أبو خالد شطب الكلمة «المبتذلة»، وابتسم. جابر حذف العبارة «غير المنسجمة»، واطمأن. الثالث عدّل ما لا يعجب «المعايير»، وشعر بالإنجاز. لكن لا أحد منهم لاحظ أن شيئًا خافتًا سقط من النص مع كل تعديل: لم يسقط حرف ولا معنى فقط، بل سقط شيء يشبه النبض. النصّ أصبح صحيحًا، لكنه لم يعد صادقًا. أصبح متزنًا، لكنه لم يعد متوترًا (والتوتر - في الكتابة - حياة). أصبح مقروءًا، لكنه لم يعد مرئيًا... لأن النصّ الحقيقي لا يُقرأ فقط، بل يُرى... يُحَسّ... يرتعش له شيء ما في داخلك لا تعرف اسمه. الروح في الكتابة - كما يقولون عن الروح في الطب - لا تُرى تحت الأشعة ولا تظهر على ورق الفحوصات. الروح تُرى فقط حين تختفي. هناك لحظة مخيفة لا يخبرك عنها أحد: حين تنتهي من تنقيح المقال، ويصبح مرتبًا، موزونًا، متينًا، لا غبار عليه... ثم تلتفت إلى داخلك... فلا تشعر بشيء. لا فرح. ولا دهشة أول فكرة. ولا رجفة أول عبارة. ولا ذلك الشعور الغريب الذي كنت تقول فيه بعد أن أنهيت أول مسودة: «هذا النص... رغم هشاشته... يشبهني». الآن صار قويًا... لكنه لا يشبهك. الدكتور الغذامي قالها ذات مرة: الفكرة التي تخشى عليها أكثر من اللازم... لا تنجو. أطلقها، ولو سقطت. السقوط جزء من دورتها البيولوجية. تعلمت منه أن أنقد نصّي... لكن لا أُهذّبه أكثر مما ينبغي. أصلح خطأه... لكن لا أقتل ارتباكه. أضبط لغته... لكن لا أستأصل اندفاعه. لأن الفكرة مثل طفل، إذا ربيته على المثالية المفرطة، ربما يخرج إلى العالم... مؤدّبًا جدًا... وخائفًا جدًا... ولا يشبه نفسه إطلاقًا. أريد أن أكتب نصوصًا ليس بالضرورة أن تكون مثالية...لكنها حية. نصوصًا قد تحتوي على كلمة غريبة، وعبارة غير مضمونة، وجملة لا توافق الذوق العام... لكنها - رغم ذلك كله - تكسر شيئًا في الداخل، وتسأل سؤالًا مزعجًا، وتخدش سطح اليقين قليلًا، ثم تتركك مرتبكًا، مرتبكًا بشكل جميل. في النهاية، اكتشفت أن الفكرة لا تموت حين تُهاجَم... بل حين تُحاط بالرعاية المفرطة. وحين تُدفن - بأناقة - تحت أكفان اللغة السليمة، وعطور الأسلوب المتزن، وأكاليل النقد البنّاء... فتخرج للعالم... نصًا خاليًا من الأخطاء... وخاليًا من الحياة أيضًا.