يضم ديوان "الكتابة فوق الجدران" منشورات "الدار" في القاهرة للشاعر المصري عبدالعزيز موافي ثماني قصائد هي: ماضي الحوائط، الكتابة فوق الجدران، حوائط جانبية، الكتابة فوق اللافتات، الكتابة فوق جدران الكعبة، حوائط فلسطينية، الكتابة فوق الشواهد، الكتابة فوق الأوراق. وهو تقسيم يشي بالتخطيط الذهني المسبق للكتابة الشعرية، فالشاعر يعرف أنه مقبل على تجربة محددة منذ العنوان الكلي للعمل وحتى القصيدة الأخيرة"الكتابة على الأوراق"الخاصة بعمله الأساسي كناقد وباحث، رغم أن هذه القصيدة قد تكون المحفز الأول على إنتاج التجربة. لكن سيناريو الفيلم التسجيلي الشعري عن الجدران الذي أعده موافي استدعى أن يكون ما هو شخصي مؤخراً عما هو عام وإنساني ككل، ولعل هذا يضعنا أمام تساؤل عن مقدار العفوية والذهنية أو العقلانية في الشعر. لكننا حين نعود إلى التعريف اللغوي لكلمة قصيدة نجد أن القصدية تحتل مساحة لا يمكن إغفالها في الإقبال على العمل الشعري، ومن ثم فليس هناك ما يمنع من التخطيط للتجربة الشعرية، بخاصة إن كانت تتمثل روح الأعمال الكبرى كالمعلقات أو الملاحم، بينما تنحصر العفوية في النسج الداخلي للمقاطع: "وهكذا/ ظلت بضعة حوائط/ - لم تمت من قبل -/ تمارس بطولة الغياب/ بينما حوائط أخرى تتعرف/ على المدينة من صخب لافتاتها/ ثم تمضي في اتجاه مضاد للنسيان/ لتمارس فن الموت الخطأ". ربما كان سيد عويس في كتابه"هتاف الصامتين"من ملهمي موافي في هذه التجربة، عويس نظر إلى كتابة العبارات والأدعية والشعارات والأمثلة الشعبية والجمل الشهيرة على العربات والجدران واللافتات على أنها النضال السري الصامت للمهمشين، وموافي رآها التاريخ الحقيقي الذي حفرته البشرية بالأزاميل والدماء والعرق. وإذا كانت البطولة لدى عويس للمهمشين، فالبطولة لدى موافي كانت للجدران التي تنوعت كيفياتها من الحالة الإنسانية إلى الحيوانية والوهم والجماد: فوق حائط مهزوم/ من جهة الأمس/ كان"الجمل"و"الهلال"/ - في سمواتها المفتوحة -/ يعلنان:"نهاية التاريخ الآن... لكل جدار حصته من الماضي/ إلا ذلك الجدار/ حين يؤمم للأغيار فوضاه فيسقطون/ صرعى أحلامه الغابرة.../ إنه حائط يجنح فوق أرصفة/ الماضي/ كضوء يظمأ إلى ظل... وبطبيعة الشعر التي لا تخلو من الهم السياسي جاءت تجربة موافي كجدارية تحمل في إطارها العام التاريخ الإنساني والعربي، خصوصاً من خلال الحوائط والجدران، وتحمل في إطارها الداخلي ثقافة الشاعر وفلسفته أو موقفه من العالم ومجريات التاريخ القديم والراهن، فالشاعر هو القارئ في هذه اللحظة لهذا التاريخ الطويل، وهو الكاتب عنه، وهو ليس معنياً بتقديم تاريخ رسمي سيعود إليه الباحثون في أعمالهم، بمقدار اعتنائه بتسجيل زفرته والتباساته الوجدانية والثقافية. وبطبيعته كشاعر في عالم مهمش بفعل الآلة الجهنمية والتكتلات الدولية والوحشية الرأسمالية يرغب في أن يخلد على هذه الجدارية نفسه وحبيباته وانشغالاته: أتذكر.../ أنها - بإصبع الروج - كتبت/ حروفنا الأولى/ فوق مرآة المصعد .../ وقتها/ تماسكت الشفاه والأيدي/ إلى درجة النسيان.../ وبعد سنوات قليلة/ حين حاولنا تبادل نفس القبلات/ اكتشفنا/ أن لها طعم الغرف المغلقة. من خلال الحوائط / الشواهد كتب موافي مرثياته إلى ناس أحبهم كأمل دنقل وسعاد حسني والشهيدة الصغيرة وفاء إدريس، ومن خلال اللافتات كتب عن الرافضين الذين يزيد الرفض وجوههم بهاءً ، والصارخين بصمتهم في مواجهة قوى لا قبل لهم بها، والذين يرفعون لافتات ليس تحتها غير الزيف والوهم والتضليل... وكتب عن الصحيفة والمعلقات وطرفة بن العبد وعنترة... والصحراء الواسعة التي إذا سقطت منها الكلمات لم يبق لها شيء. كتب عن نفسه وتاريخه وعلاقاته وأحلامه وندمه. ولعلنا حين نتساءل لماذا اختار الشاعر الجدران ليكتب عنها نجده يقول هل تتمرد الحجارة - إذاً - على/ ذواتها المعتادة؟/ وتدرك أنه ليس أقسى من/ حائط مهزوم/ حائط لا مبرر له سوى أن تستظل به امرأة/ أو تثغو فوقه الشعارات. ربما هذا ما أراده موافي من ديوانه، فالعامة يقولون:"ظل رجل ولا ظل حائط"، فماذا حين يتحول الرجل إلى حائط مهزوم، لا يستطيع أن يحمي امرأة تستظل به، ولا أن يمحو الشعارات العالقة به؟