إنقاذ 18 عاملًا في منجم ذهب بكولومبيا    "حامد الغامدي"اتحادياً حتى 2030    الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    مقتل ثلاثة أشخاص في انفجار بمركز تدريب للشرطة في لوس أنجلوس    حرائق الغابات في كندا أتت هذا العام على مساحة بحجم كرواتيا    تراجع أسعار النفط    البرازيلي "شاموسكا" مدرباً للتعاون مجدداً    أمير الشرقية يدشّن المخطط العام لمطار الملك فهد الدولي... الأحد    إدارة "النصر"تعيّن البرتغالي"خوسيه سيميدو"رئسياً تنفيذياً    النصر: تعيين البرتغالي سيميدو رئيسًا تنفيذيًا مكلّفًا    القبض على (3) أشخاص في القصيم لترويجهم مواد مخدرة    أرقام رائعة تُميز ديفيد هانكو مدافع النصر المُنتظر    الهلال يدخل سباق التعاقد مع مهاجم نيوكاسل    للمسؤول … طريق لزمة – الوهابة في انتظار كاميرات ساهر والإنارة    توزيع (3.255) سلة غذائية في عدة مناطق بباكستان    "وِرث" و"السودة للتطوير" تطلقان برنامجًا تدريبيًّا لفن القط العسيري    2000 ريال تكلفة كتابة السيرة الذاتية للباحثين عن عمل    1.9 مليون مصلٍ بالروضة الشريفة وأكثر من 3.4 مليون زائر للنبي صلى الله عليه وسلم    المعيقلي: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة    حسين آل الشيخ: النميمة تفسد الإخاء وتورث العداوة    حساد المتنبي وشاعريته    حملات إعلامية بين «كيد النساء» و«تبعية الأطفال»    ميراث المدينة الأولى    أبعاد الاستشراق المختص بالإسلاميات هامشية مزدوجة    رياح نشطة وطقس حار على معظم مناطق المملكة    "هيئة الطرق": الباحة أرض الضباب.. رحلة صيفية ساحرة تعانق الغيوم عبر شبكة طرق متطورة    الجبل الأسود في جازان.. قمم تعانق الضباب وتجذب الزوار بأجوائها الرائعة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    القادسية يُعلن رحيل أوباميانغ    مهند شبير يحول شغفه بالعسل إلى علامة سعودية    معادلة عكسية في زيارة الفعاليات بين الإناث والذكور    انطلاق أول تدريبات ⁧‫قدم الدانة‬⁩ للموسم الكروي المقبل    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    السعودية: نرفض كافة التدخلات الخارجية في سوريا    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    المملكة تعزي العراق قيادة وحكومة وشعبًا في ضحايا «حريق الكوت»    تعليم الطائف يختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي لأكثر من 200 طالب وطالبة    صدور بيان عن السعودية و 10 دول حول تطورات الأحداث في سوريا    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    المدينة المنورة تبرز ريادتها في المنتدى السياسي 2025    الأولى عالميا.. التخصصي يزرع جهاز دعم بطيني مزدوج بمساعدة الروبوت    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بقاتل الدكتور عبد الملك بكر قاضي    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    ضبط 275 كجم مخدرات والإطاحة ب11 مروجاً    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    " الأمن العام" يعرف بخطوات إصدار شهادة خلو سوابق    بوتين لا ينوي وقف الحرب.. روسيا تواصل استهداف مدن أوكرانيا    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصول من "التطهير العرقي في فلسطين" . عرب الجليل "سرطان في جسد اسرائيل" وتهديم القرى المهجورة لمنع عودة اللاجئين 8 من 8
نشر في الحياة يوم 26 - 04 - 2007

كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل.
ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك"العصابات الصهيونية".
تصدر الطبعة العربية من الكتاب أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات بحوث من اجل السلام.
"الحياة" نشرت سبع حلقات، وهنا الأخيرة :
أرادت النخبة السياسية الإسرائيلية اجتثاث الطابع"العربي"الواضح جداً للجليل. لكن الجليل، على الرغم من جهود إسرائيل لپ"تهويده"- ابتداء من عمليات الطرد المباشر في الأربعينات، إلى الاحتلال العسكري في الستينات، إلى مصادرات الأراضي الهائلة في السبعينات، إلى جهود التوطين اليهودية الواسعة النطاق في الثمانينات - لا يزال إلى الآن المنطقة الوحيدة في فلسطين التي احتفظت بجمالها الطبيعي، ونكهتها الشرق الأوسطية، وثقافتها الفلسطينية. وبما أن نصف عدد سكانه من الفلسطينيين، فإن"الميزان الديموغرافي"يمنع كثيرين من اليهود الإسرائيليين من الاعتقاد أن المنطقة"تخصهم"، حتى في بداية القرن الحادي والعشرين.
في شتاء سنة 1948، اشتملت محاولات الإسرائيليين لإمالة"الميزان"الديموغرافي الى مصلحتهم على طرد سكان قرى صغيرة إضافية، مثل عرب السمنية بالقرب من عكا، البالغ عدد سكانها 200 نسمة، والقرية الكبيرة دير القاسي البالغ عدد سكانها 2500 نسمة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك القصة الفريدة للقرى الثلاث: إقرت وكفر برعم والغابسية، التي بدأت في تشرين الأول أكتوبر 1948 ولم تنته بعد. وحكاية إقرت شبيهة بما جرى أيضاً للقريتين الأُخريين.
كانت القرية القريبة من الحدود اللبنانية، تجثم عالية في الجبل، على بعد نحو 30 كم من ساحل البحر. احتلتها كتيبة إسرائيلية في 31 تشرين الأول 1948. استسلم السكان من دون قتال، إذ كانوا من الطائفة المارونية وتوقعوا أن يكونوا مرحباً بهم في الدولة اليهودية الجديدة. وأمرهم قائد الكتيبة بالمغادرة بحجة أن بقاءهم يشكل خطراً عليهم، ووعدهم بتمكينهم من العودة خلال أسبوعين، بعد انتهاء العمليات الحربية. وفي 6 تشرين الثاني نوفمبر، أُخرج السكان من بيوتهم، ونقلتهم شاحنات الجيش إلى الرامة. وسُمح لخمسين شخصاً، بينهم الكاهن، بالبقاء للمحافظة على البيوت والأملاك، لكن الجيش الإسرائيلي عاد بعد ستة أشهر وطردهم هم أيضاً.
ونجد هنا مثالاً لتنوع الأساليب التي اتبعت في عمليات التطهير. إن حالة إقرت وقرية كفر برعم المجاورة هي من الأمثلة القليلة المعلنة التي قرر السكان فيها أن يخوضوا معركة طويلة الأمد بحثاً عن الإنصاف من خلال المحاكم الإسرائيلية. فالقرويون، لأنهم مسيحيون، سُمح لهم بالبقاء في البلد، لكن لا في قريتهم. غير أنهم لم يستسلموا، وبدأوا كفاحاً قانونياً طال أمده، من أجل حقهم في العودة إلى قريتهم، مطالبين باحترام وعد الجيش لهم. وها قد مضى ستون عاماً تقريباً وما زالوا يواصلون كفاحهم لاسترداد حياتهم المسروقة.
في 26 أيلول سبتمبر 1949، أعلن وزير الدفاع أن قوانين الطوارئ الموروثة من الانتداب البريطاني تنطبق على إقرت، وذلك من أجل منع العودة التي وعد الضابط المحتل سكان القرية بها. وبعد عام ونصف العام تقريباً، في 28 أيار مايو 1951، قرر سكان إقرت رفع قضيتهم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، التي قررت بتاريخ 31 تموز يوليو أن إجلاء السكان كان غير قانوني وأمرت الجيش بالسماح لسكان إقرت بالعودة إلى قريتهم الأصلية والاستقرار فيها. ومن أجل الالتفاف على قرار المحكمة العليا، كان الجيش بحاجة إلى إثبات أنه أصدر أمراً رسمياً بالطرد خلال حرب 1948. وكان من شأن ذلك أن يحول إقرت إلى مجرد قرية أُخرى أخليت من سكانها، مثلها مثل ال350 قرية فلسطينية التي تغاضت المحاكم الإسرائيلية بأمر رجعي عن طرد سكانها. فكان أن فبرك الجيش الإسرائيلي أمراً رسمياً كهذا من دون أي تردد أو وسواس. في أيلول 1951، أصيب سكان قرية إقرت، المقيمون آنذاك بالرامة كلاجئين، بالذهول لدى رؤيتهم الأمر العسكري الرسمي القاضي بطردهم، وعليه التاريخ: 6 تشرين الثاني 1948، الأمر الذي يعني أنه أُرسل إليهم بعد ثلاثة أعوام تقريباً.
ومن أجل أن ينهي الجيش الإسرائيلي المسألة مرة وإلى الأبد، قام عشية عيد الميلاد في سنة 1951 بتدمير جميع البيوت في قرية إقرت تدميراً كلياً، مستثنياً الكنيسة والمقبرة فقط. ودمّر في السنة نفسها على نحو مشابه قرى عدة مجاورة، بينها: قديتا ودير حنا وكفر برعم والغابسية، كي يمنع العودة إليها. وكان سكان كفر برعم والغابسية نجحوا أيضاً في الحصول على أحكام قاطعة من محاكم إسرائيلية [تقضي بعودتهم- المترجم]. وكما حدث بالنسبة إلى إقرت،"انتقم"الجيش بتدمير قريتيهم، متذرعاً بعذر سخيف فحواه أن الجيش كان يقوم بتدريبات عسكرية في المنطقة، وضمنها قصف جوي، ونجم عن ذلك بطريقة ما تحويل القريتين إلى ركام غير صالح للسكن.
وكان التدمير جزءاً من معركة متواصلة ضد"تعريب"الجليل، كما ترى إسرائيل الأمر. في سنة 1976، وصف الموظف الأعلى مرتبة في وزارة الداخلية، يسرائيل كوينغ، الفلسطينيين في الجليل بأنهم"سرطان في جسد الدولة."وقال عنهم رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان، صراحة بأنهم"صراصير". لقد فشلت الجهود المكثفة ل"تهويد"الجليل حتى الآن في جعله"يهودياً". لكن بما أن كثيرين من الإسرائيليين، بمن فيهم سياسيون وأكاديميون، أصبحوا يقبلون ويبررون التطهير العرقي الذي حدث، ويوصون صناع القرار المستقبليين بتكراره، فإن خطر عمليات طرد إضافية ما زال يحوّم فوق رؤوس السكان الفلسطينيين في هذا الجزء من فلسطين.
استمرت عمليات"التخلص ممن تبقى"خلال نيسان أبريل 1949، ونجم عنها في بعض الأحيان مجازر جديدة، وتعرضت لذلك خربة الوعرة السوداء، التي كان يقطن فيها بدو من عرب المواسي. وكانت هذه القرية الصغيرة، الواقعة في الجليل الشرقي، نجحت في صد هجمات عدة خلال"عملية حيرام"، فتُركت وشأنها. وأقدم عدد من القرويين، بعد واحدة من الهجمات، على قطع رؤوس جنود إسرائيليين قتلى. ولمّا انتهت الأعمال الحربية الشاملة في تشرين الثاني 1948، حان وقت الانتقام. ويصف تقرير قائد الكتيبة 103، التي ارتكبت الجريمة، ما حدث بتفصيل نابض بالحياة. جُمع رجال القرية في مكان معين بينما أخذت القوات تشعل النار في جميع البيوت. وأُعدم على الفور أربعة عشر رجلاً، وسيق الباقون إلى أحد المعتقلات.
منع العودة
ركزت عمليات التطهير العرقي الرئيسة في نهاية سنة 1948 على تطبيق سياسة إسرائيل المعارضة لعودة اللاجئين إلى مواطنهم. وتجلى ذلك في مستويين: المستوى الأول قومي، ودشنه قرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية في آب أغسطس 1948 قضى بتدمير جميع القرى التي تم إخلاؤها وتحويلها إلى مستعمرات يهودية، أو إلى غابات"طبيعية". والمستوى الثاني دبلوماسي، انصب الجهد فيه على تفادي الضغط الدولي المتنامي على إسرائيل للسماح بعودة اللاجئين. وكان الإثنان مرتبطين أحدهما بالآخر، إذ سرّعت إسرائيل عمداً عملية التدمير والهدم لتحقيق هدف محدد هو تفادي أي بحث في موضوع عودة اللاجئين إلى بيوتهم، باعتبار أن هذه البيوت لن تكون موجودة.
المجهود الدولي الرئيس لتسهيل عودة اللاجئين قادته لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، التابعة للأمم المتحدة. وكانت هذه لجنة صغيرة مؤلفة من ثلاثة أعضاء فقط، واحد من كل من فرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية. وقد دعت اللجنة إلى عودة غير مشروطة للاجئين إلى ديارهم، كما طالب بذلك وسيط الأمم المتحدة، الكونت فولك برنادوت، الذي جرى اغتياله. وترجم موقف اللجنة هذا إلى قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة أيده معظم الدول الأعضاء، وتم تبنيه كقرار في 11 كانون الأول 1948. وقد منح هذا القرار، قرار الأمم المتحدة الرقم 194، اللاجئين الحق في الاختيار بين العودة غير المشروطة إلى بيوتهم وبين قبول تعويض.
وقامت إسرائيل، بالإضافة إلى جهودها في المستويين السابقين لمنع العودة، بمجهود ثالث، هو ضبط التوزع الديموغرافي للفلسطينيين، سواء داخل القرى التي لم يجر تطهيرها، أم في مدن فلسطين التي كانت سابقاً مختلطة وتحولت إلى مدن"خالية كلياً من العرب". ولهذا الغرض، شكل الجيش الإسرائيلي في 12 كانون الثاني يناير 1949 وحدة جديدة، هي وحدة الأقليات. وكانت مكونة من الدروز والشركس والبدو الذين جرى تجنيدهم للقيام بعمل وحيد محدد: منع القرويين الفلسطينيين وسكان المدن من العودة إلى بيوتهم الأصلية.
تحت بصر مراقبي الأمم المتحدة الذين كانت دورياتهم الجوية تحوّم في سماء الجليل، بدأت المرحلة النهائية من عملية التطهير العرقي في تشرين الأول 1948، واستمرت حتى صيف سنة 1949. وسواء من الجو أم على الأرض، لم يكن في قدرة أي كان عدم رؤية جموع الرجال والنساء والأطفال وهم يتدفقون يومياً في اتجاه الشمال. وكان النساء والأطفال المرهقون العنصر الطاغي في هذه القوافل البشرية، إذ كان الشبان غائبين. كانوا إمّا مقتولين، أو معتقلين، أو مفقودين. أمّا مراقبو الأمم المتحدة من الأعلى، أو شهود العيان اليهود على الأرض، فمن المؤكد أن قلوبهم كانت آنذاك قد تحجرت، وإلاّ كيف يمكن تفسير القبول الصامت بمثل هذا الترحيل الجماعي القسري الهائل الذي كان يجري تحت بصرهم؟
وتوصل مراقبو الأمم المتحدة في تشرين الأول إلى بعض الاستنتاجات، وكتبوا إلى الأمين العام للأمم المتحدة - الذي لم ينشر تقريرهم - أن السياسة الإسرائيلية كانت"اقتلاع العرب من قراهم الأصلية في فلسطين بالقوة، أو بالتهديد."وحاول الأعضاء العرب لفت انتباه مجلس الأمن إلى التقرير عن فلسطين، لكن من دون جدوى. وظلت الأمم المتحدة طوال ثلاثين عاماً تقريباً تتبنى بلا مساءلة إبهام لغة آبا إيبن، مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، الذي كان يتحدث عن اللاجئين كأنهم"مشكلة إنسانية"لا يمكن اعتبار أحد مسؤولاً عنها أو محاسبته عليها. كما صدم المراقبين أيضاً حجم النهب المتواصل الذي كان طاول عند حلول تشرين الأول 1948 كل قرية وكل مدينة في فلسطين. وبما أن الأمم المتحدة كانت أقرت قبل عام تقريباً قرار التقسيم بغالبية ساحقة، فقد كان في وسعها أن تصدر قراراً آخر يدين التطهير العرقي لكنها لم تفعل ذلك قط.
كان نجاح إسرائيل في هذه المرحلة النهائية كبيراً إلى درجة أن أحلام إنشاء إمبراطورية مصغرة عادت إلى الظهور. واستُنفرت القوات الإسرائيلية مرة أُخرى من أجل توسيع الدولة اليهودية بحيث تشمل الضفة الغربية والجنوب اللبناني. واختلفت الأوامر الصادرة إليها هذه المرة عن سابقاتها بأن الإشارات إلى الضفة الغربية المسماة السامرية أو المثلث العربي في تلك الأيام كانت أوضح، وشكلت في الواقع الخرق الأول الشفاف والرسمي للتفاهمات الإسرائيلية - الأردنية. وكانت الأوامر تقضي بمحاولة احتلال المناطق الواقعة حول جنين في الجزء الشمالي من الضفة الغربية حالياً، وإذا نجحت في ذلك، التقدم نحو نابلس. ومع أن الهجوم جرى تأجيله، فإن القيادة العسكرية العليا ظلت مهجوسة طوال الأشهر التالية بالمناطق التي لم يحتلها الجيش بعد، وخصوصاً بالضفة الغربية. ولدينا الأسماء التي أُطلقت على مختلف العمليات التي خططت إسرائيل لتنفيذها هناك ما بين كانون الأول 1948 وآذار مارس 1949، وأشهرها عملية"سْنير". لكن عندما وقّعت إسرائيل والأردن في النهاية اتفاق الهدنة، كان لا بد من تنحيتها جانباً.
وكما نعرف، أُعيد تنشيط هذه الخطط في حزيران يونيو 1967، عندما استغلت الحكومة الإسرائيلية سياسات حافة الحرب التي أقدم عليها جمال عبد الناصر لتشن هجوماً على الضفة الغربية بكاملها.
أجرى بن - غوريون المناقشات المتعلقة بالخطط المستقبلية، بما في ذلك ضرورة احتلال الجنوب اللبناني، في لجنة مؤلفة من خمسة أشخاص جميعهم أعضاء سابقون في الهيئة الاستشارية دعاها إلى المقر الرئيسي الجديد لقيادة الجيش الإسرائيلي، الذي كان اسمه"التلة". وقد اجتمع هؤلاء مرات عدة خلال تشرين الأول وتشرين الثاني، ولا بد من أن تكون هذه الاجتماعات جعلته يحن إلى أعضاء عصبته السرية السابقة. فقد شاور هذه اللجنة صاحبة القرار، المكونة من خمسة أعضاء، في شأن احتلال الضفة الغربية في المستقبل. فواجهته بحجة إضافية ضد احتلال الضفة الغربية. وعلى حد قول أحد المشاركين، يتسحاق غرينباوم، وزير الداخلية الإسرائيلي:"سيكون من المستحيل أن نفعل هناك ما فعلناه في باقي فلسطين"، أي تطهير عرقي. وتابغ غرينباوم:"إذا قمنا باحتلال أمكنة مثل نابلس، فسيطالبنا العالم اليهودي بالاحتفاظ بها"[وبالتالي لن نحصل على نابلس فقط، بل أيضاً على النابلسيين]. وفي سنة 1967 فقط، أدرك بن- غوريون صعوبة تكرار أعمال الطرد الجماعية، التي حدثت سنة 1948، في المناطق التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران. ومن سخريات القدر، ان يكون هو من أقنع رئيس هيئة الأركان آنذاك، يتسحاق رابين، بالامتناع من القيام بعمليات طرد جماعي واسعة النطاق، وبالاكتفاء بترحيل 200.000 نسمة"فقط". وانطلاقاً من إدراكه صعوبة الطرد، أوصى الجيش بالانسحاب من الضفة الغربية فوراً. لكن رابين، الذي دعمه أعضاء الحكومة الآخرون آنذاك، أصر على ضم المناطق إلى إسرائيل.
كانت خطط الاستيلاء على الجنوب اللبناني مبنية على تقارير استخباراتية بأن اللبنانيين ليس لديهم خطط هجومية، وإنما خطط دفاعية فقط. وقد احتلت القوات الإسرائيلية ثلاث عشرة قرية في الجنوب اللبناني، ووجدت بين أيديها عدداً كبيراً ممن سمّتهم"أسرى حرب"- خليطاً من قرويين وجنود - أكثر مما تستطيع التعامل معهم. وبالتالي، نُفّذت هنا أيضاً عمليات إعدام. ففي 31 تشرين الأول 1948، أعدمت القوات اليهودية أكثر من ثمانين قروياً في قرية حولا وحدها، بينما قتلت في قرية"الصالحة"أكثر من مئة شخص.
الجنوب والشرق
كانت الجبهة الأخيرة النقب الجنوبي، الذي وصل إليه الإسرائيليون في تشرين الثاني 1948. طردوا القوات المصرية المتبقية إلى خارج الحدود، وواصلوا التقدم جنوباً حتى وصلوا في آذار 1949 إلى قرية للصيادين بالقرب من البحر الأحمر، أم رشرش، التي هي اليوم مدينة إيلات.
أراد يغآل ألون، الذي كان يعرف أن الألوية المشغولة بالتطهير العرقي في المناطق المزدحمة بالسكان هي الأفضل، أن يعيد توجيهها لاحتلال النقب:"أنا بحاجة إلى استبدال لواء النقب بلواء هرئيل، وأريد أيضاً اللواء الثامن. العدو قوي ومتحصن ومسلح جيداً، وسيشن حرباً عنيدة، لكننا نستطيع أن ننتصر."
إلاّ إن المصدر الرئيس للقلق كان الخوف من هجوم بريطاني مضاد، لأن الإسرائيليين كانوا يعتقدون، خطأً، أن بريطانيا تريد الاحتفاظ بهذه المنطقة، أو أن حكومة صاحب الجلالة ستفعّل المعاهدة الدفاعية مع مصر، لأن بعض القوات الإسرائيلية كان على وشك التحرك إلى داخل أراضٍ مصرية. غير أن البريطانيين لم يفعلوا أياً من الأمرين، مع أنهم اشتبكوا هنا وهناك مع سلاح الجو الإسرائيلي الذي قصف بلا رحمة، وربما من دون سبب، رفح وغزة والعريش. ونتيجة ذلك، فإن الغزاويين، اللاجئين منهم والسكان القدامى، هم أصحاب التاريخ الأطول كضحايا للقصف الجوي الإسرائيلي، منذ سنة 1948 حتى الآن.
أمّا على جبهة التطهير العرقي، فإن العمليات النهائية في الجنوب وفرت، كما كان متوقعاً، فرصة لمزيد من إخلاء البلد من الفلسطينيين ولمزيد من الطرد. احتُلت المدينتان الساحليتان الجنوبيتان، إسدود والمجدل، في تشرين الثاني 1948 وطُرد سكانهما إلى قطاع غزة. وطُرد آلاف من السكان الذين بقوا في المجدل في كانون الأول 1949، الأمر الذي صدم بعض اليساريين الإسرائيليين لأن ذلك حدث في"زمن السلم".
وكُرّس كانون الأول لتطهير النقب من كثير من القبائل البدوية المقيمة هناك. طُردت قبيلة الترابين الكثيرة العدد إلى غزة، وسمح الجيش ل1000 من أفرادها فقط بالبقاء. وشُطرت قبيلة أُخرى، التياها، إلى قسمين، نصفها رُحّل إلى غزة، والنصف الآخر رُحّل في اتجاه الأردن. ودُفعت قبيلة الهجاجرة، التي كانت منتشرة على جانبي خط السكة الحديد، إلى غزة في كانون الأول. ومن كل هذه لم ينجح في العودة إلاّ قبيلة العزازمة، لكنها طُردت مرة أُخرى في ما بين سنة 1950 وسنة 1954، عندما أصبحت الهدف المفضل لقوة كوماندو إسرائيلية خاصة، القوة 101، التي كان يقودها ضابط شاب طموح اسمه أريئيل شارون. كما أن الوحدات الإسرائيلية أكملت في كانون الأول إخلاء منطقة بئر السبع التي كانت بدأت بإخلائها في خريف سنة 1948. وعندما انتهت من ذلك، كان تسعون في المئة من السكان الذين كانوا يعيشون منذ قرون في أقصى الجنوب الآهل من فلسطين قد ذهبوا.
في تشرين الثاني وكانون الأول هاجمت القوات الإسرائيلية وادي عارة مرة أُخرى، لكن وجود المتطوعين والوحدات العراقية والقرويين المحليين ردع، وفي عدة حالات أحبط، هذه الخطة مرة ثانية. وقد نجحت القرى المألوفة أسماؤها للإسرائيليين المسافرين حالياً على الطريق 65 المزدحم، الذي يصل بين العفولة وحديرا، في حماية نفسها من قوة عسكرية متفوقة عليها بما لا يقاس: المشيرفة"مصمص"معاوية"عرعرة"برطعة"الشويكة"وكثير غيرها. وأصبحت أكبر هذه القرى بلدة نعرفها اليوم باسم أم الفحم، وكان القرويون فيها قد نظّموا آنذاك، بمساعدة من جنود عراقيين، قوة سموها"جيش الشرف". وقد سمى الإسرائيليون المحاولة الخامسة لاحتلال هذه القرى"حِدوش يَمينوا كِ - كيدِمْ"أي:"إحياء ماضينا المجيد"، ربما على أمل أن يشحن اسم رمزي حافل بالدلالات كهذا القوات بحماسة خاصة، لكن المحاولة باءت بالفشل مرة أُخرى.
أُطلق على العملية في منطقة بئر السبع - الخليل اسم منذر بالشؤم:"الأَصله"[نوع من الحيات - المترجم]. وهناك، بالإضافة إلى بلدة بئر السبع الصغيرة، البالغ عدد سكانها 5000 نسمة، والتي احتلت في 21 تشرين الأول، احتُلت قريتان كبيرتان، القبيبة والدوايمة. وروى حبيب جرادة، الذي يعيش حالياً في مدينة غزة، كيف طُرد سكان بئر السبع تحت تهديد السلاح إلى الخليل. وأسطع ما بقي حياً في ذاكرته هو مشهد رئيس البلدية وهو يتوسل إلى الضابط المحتل راجياً ألاّ يرحِّل السكان."نحن بحاجة إلى الأرض، لا إلى عبيد"، أتى الجواب الفظ.
كان المدافعون عن بئر السبع في الأساس متطوعين مصريين من الإخوان المسلمين بقيادة ضابط ليبي، رمضان السنوسي. وعندما انتهى القتال، جُمع الجنود الأسرى والسكان المحليون الذين شكّت القوات الإسرائيلية في أنهم حملوا السلاح، وأُطلقت عليهم النار بصورة عشوائية. ويتذكّر جرادة حتى الآن كثيراً من أسماء الناس الذين قتلوا، وبينهم ابن عمه يوسف جرادة وجدّه علي جرادة. أمّا هو، فقد سيق إلى أحد المعتقلات وأُطلق في صيف سنة 1949 في عملية تبادل للأسرى أعقبت إبرام الهدنة مع الأردن.
مجزرة الدوايمة
ولدينا قرية الدوايمة، الواقعة بين بئر السبع والخليل. وما جرى لها ربما كان أسوأ ما حدث في تاريخ الأعمال الوحشية التي ارتكبت خلال النكبة. أمّا الوحدة التي احتلتها فكانت الكتيبة 89 التابعة للواء الثامن.
وعقدت لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، التابعة للأمم المتحدة، والتي حلّت - كما ذكرنا سابقاً - محل الكونت برنادوت في جهود الوساطة، جلسة خاصة لتقصي ما حدث في هذه القرية في 28 تشرين الأول 1948، الواقعة على بعد أقل من ثلاثة أميال من مدينة الخليل، والتي كان عدد سكانها في الأصل 2000 نسمة، لكن 4000 آلاف لاجئ أتوا إليها رفعوا الرقم إلى ثلاثة أضعاف.
يرد في تقرير الأمم المتحدة المؤرخ في 14 حزيران 1949 في الإمكان الاطلاع عليه ببساطة في الإنترنت تحت اسم القرية التالي:
السبب في ضآلة ما هو معروف عن هذه المجزرة، التي تفوق - من نواح كثيرة - في وحشيتها مجزرة دير ياسين، يرجع إلى أن الفيلق العربي الجيش الذي كانت المنطقة تحت سيطرته خشي، فيما لو سُمح لأخبارها بالانتشار، أن تحدث التأثير نفسه الذي أحدثته مجزرة دير ياسين في معنويات الفلاحين، وأن تتسبب بموجة لجوء أُخرى.
لكن السبب كان، على الأرجح، أن الأردنيين خشوا أن يوجه إليهم، بحق، اللوم على عجزهم وتقاعسهم. ويستند تقرير لجنة التوفيق أساساً إلى شهادة المختار، حسن محمود إهديب. وتعزز التقارير المحفوظة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية كثيراً مما رواه. كما أكد الكاتب الإسرائيلي المعروف جيداً، عاموس كينان، الذي شارك في المجزرة، حقيقة وقوعها، وذلك في مقابلة أجراها معه في أواخر التسعينات الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري، من أجل فيلمه الوثائقي"1948".
روى المختار أنه بعد صلاة الجمعة في 28 تشرين الأول بنصف ساعة، دخلت عشرون عربة مصفحة القرية من جهة القبيبة، في حين هاجمها في الوقت نفسه جنود من الجهة المقابلة. وشل الخوف على الفور الأشخاص العشرين الذين كانوا يحرسون القرية. وفتح الجنود الموجودون في العربات المصفحة النار من أسلحة أوتوماتيكية ومدافع هاون، بينما كانوا يشقون طريقهم داخل القرية بحركة شبه دائرية. وعلى جري عادتهم، طوقوا القرية من ثلاث جهات، وتركوا الجهة الشرقية مفتوحة كي يطردوا من خلالها السكان البالغ عددهم 6000 نسمة خلال ساعة واحدة. وعندما لم يتحقق ذلك، قفز الجنود من عرباتهم وراحوا يطلقون النار على الناس من دون تمييز، ولجأ كثير ممن فروا إلى الجامع للاحتماء به، أو إلى كهف مقدس قريب يُدعى"عراق الزاغ". وعندما تجرأ المختار وعاد إلى القرية في اليوم التالي، هاله مرأى أكوام الأجساد الميتة في الجامع، والجثث الكثيرة المتناثرة في الشارع، وهي لرجال ونساء وأطفال، وبينهم والده. وعندما ذهب إلى الكهف وجده مسدوداً بعشرات الجثث. وأظهر التعداد الذي قام به المختار أن 455 شخصاً كانوا مفقودين، بينهم نحو 170 طفلاً وامرأة.
وصف الجنود اليهود الذين شاركوا في المجزرة مشاهد تقشعر لها الأبدان: أطفال رضع حُطمت جماجمهم، ونساء اغتُصبن أو أُحرقن أحياء داخل بيوتهن، ورجال طُعنوا حتى الموت. ولم تكن هذه روايات قيلت بعد أعوام، وإنما روايات شهود عيان في تقارير رُفعت إلى القيادة العليا خلال أيام قليلة بعد وقوع الحدث. وتعزز الوحشية الموصوفة فيها تصديقي للوصف الدقيق، الذي سبق ذكره، للجرائم البشعة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون في الطنطورة والصفصاف وسعسع، والتي أمكن استعادة مجرياتها أساساً بمساعدة الشهادات والتواريخ الشفوية الفلسطينية.
وكان ذلك كله النتيجة النهائية لأمر تلقاه قائد الكتيبة 89 في اللواء الثامن من رئيس الأركان، يغئيل يادين:"يجب أن تتضمن استعداداتك حرباً نفسية و"معالجة"طِبّول أمر المواطنين كجزء لا يتجزأ من الخطة."
التطهير العرقي ليس إبادة عرقية، لكنه ينطوي على أعمال وحشية وقتل جماعي ومجازر. آلاف من الفلسطينيين قتلوا بوحشية ومن دون رحمة بأيدي جنود إسرائيليين من خلفيات ورتب وأعمار متعددة. وأياً منهم لم يحاكم لارتكابه جرائم حرب، على رغم الأدلة الوافرة.
ولم يثْنِ أي أسف القوات الإسرائيلية عن إنجاز مهمتها القاضية بتطهير فلسطين"وهي مهمة انبرت لتنفيذها بمستويات متصاعدة من القسوة والوحشية. وهكذا، ابتداء من تشرين الثاني 1948 حتى التوصل إلى اتفاق نهائي مع سورية ولبنان في صيف سنة 1949، تم احتلال سبع وثمانين قرية أُخرى: ست وثلاثون منها أُخليت بالقوة، بينما رُحّل من البقية أعداد مختارة. ومع بداية سنة 1950، بدأت أخيراً طاقة وتصميم الطاردين بالنفاد، وأصبح الفلسطينيون الذين كانوا ما زالوا يعيشون في فلسطين- التي قُسّمت إلى دولة إسرائيل، وضفة غربية أردنية، وقطاع غزة مصري- بمأمن من الطرد إلى حد كبير. صحيح أنهم أُخضعوا لحكم عسكري في إسرائيل ومصر، وبالتالي ظل وضعهم هشاً، لكن مهما تكن الصعوبات التي عانوها، فإنها تظل أهون من تلك التي تعرضوا لها في سنة الأهوال التي نسميها الآن"النكبة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.