رأت أنها غيمة بيضاء كقطن لحاف العروس، تلتحف السماء، تبحث عن أرض عطشى. باغتها الضوء، فاستيقظت مذعورة وكأن أحداً سلط مصباحاً قوياً على وجهها. لثوانٍ تساءلت: "من أين دخل ذلك الضوء؟". فبالأمس، تذكر، جيداً وقبل الذهاب للنوم، كانت قد أغلقت كل النوافذ، وأسدلت الستائر ذات اللون الداكن، حتى لا يضطرها ضوء الصباح لليقظة باكراً. فهي صارت تهرب للنوم، حتى لا تواجه النهار الذي صارت تراه صلفاً وهو يكشف لها قبح الخيبة والفشل واللاجدوى، أو قبح اليأس، فتغطي رأسها مستنجدة به. لم تكمل تساؤلها هذا لتكتشف انه لم تعد هناك ستائر، ولا حتى نوافذ. تلفتت مذهولة. بل ليست هناك أبواب حتى. للحظات اعتقدت انها تحلم. وكثيراً ما يختلط لديها الحلم بما يشبه الواقع. ولكن كيف تتأكد أنها تحلم. ها هي تقوم من فراشها، الوحيد الذي لم يتغير. تنهض مرتبكة. نسيت خوفها لحظات. تبحث عن الروب الذي تغطي به قميص النوم، وهي تشعر انها معرضة لعيون فضولية ترصدها بثيابها الخفيفة. لكنها اكتشفت انها ترتدي السروال الأسود والقميص القطني بألوانه الكثيرة. فتساءلت: "كيف نامت بملابسها هذه؟ وهي لا تطيق ارتداءها حال دخول باب الدار. وحين تفعل ذلك في بعض الأحيان، لا بد أن تستيقظ في منتصف الليل، تحت ضغط تعرضها للاختناق، لتستبدلها بثياب النوم". مر تساؤلها سريعاً من دون أن تعيره التفاتة، فتلبسها فزع أكبر وهي تتطلع الى السقف الذي اختفى هو الآخر. دارت حول نفسها تصارع صرختها التي أخرسها الخوف. شعرت بتقلص واختلاط بأحشائها، حين رأت انه لم تعد هناك جدران أيضاً. وعلى البعد، لم تكن هناك أي عيون تتطلع لها بفضول. بل ليس هناك جيران ولا حتى مساكن. "إذاً هو كابوس وسأستيقظ حالاً، فليس من المعقول ان تختفي مدينة بأكملها في ليلة واحدة". لكن متى تستيقظ؟ هيا انهضي! تعالت خفقات قلبها، وجفت شفتاها. بحثت في أرجاء المكان عن اناء الماء. تسمرت خطواتها، وقد تملكها رعب اجتاح جسدها كله. تتلفت بذعر. المكان خال من أي كائن. أرض جرداء تمتد أمامها. ليس هناك سوى بعض غيوم. تتهادى وسط سماء زرقاء، منحها ذلك الصفاء شيئاً من الهدوء. لكن أين اختفى كل أولئك البشر؟ كل تلك الديار؟ ماذا حل بالأبواب، بالشبابيك؟ ماذا حل بتلك الجدران تلك التي كانت تشعرها بالاختناق؟ كانت تحاصرها، وكم شعرت بالخوف من أن تطبق عليها يوماً. لكنها على الأقل كانت تصد عنها الريح، تمتص صرخاتها وبعض ساعات الأنين. أما الآن فلا يشدها الى تلك الأرض سوى أقدام ارهقها الترحال، والبحث عن الأمان، قد تقتلعها أي عاصفة لليأس. انتابتها قشعريرة وصعوبة تنفس. برد وألم تشعره كوخزات ابر في أطرافها: "أهو الموت يا ترى؟ أخيراً استجيب النداء؟ لم أكن جادة حينها، بل هو توسل لحظة صفاء". عيناها تتلفتان كأنهما عصفوران حوصرا بقفص. خافت ان تتخطى حدود المكان. نهضت، وارتعاشة تنتابها كمن يتعلم المشي تواً. شعرت بألم في ظهرها. جلست على الأرض. تتأمل فراشها وقد خنقت صرختها على رغم تأكدها ان ليس هناك من يسمعها. اندست بفراشها من جديد. انكمشت كالجنين، وهي تنصت لصوت الريح ورحيل الغيوم المتهادي البعيد. لندن - ابتسام يوسف الطاهر كاتبة عراقية