حساب المواطن: 3.4 مليار ريال لمستفيدي دفعة شهر يونيو    الذهب يستقر عند 2296.17 دولار للأوقية    وزير التجارة يصدر قرارًا وزاريًا بإيقاع عقوبة مباشرة على كل من أخلّ بأداء واجبه في إيداع القوائم المالية    "التجارة" تضبط 374 مخالفة في المدينة    انحفاض الإنتاج الصناعي 6.1% في أبريل    إستخراج بطاقات إقامة ممن مضى على إقامتهم في مصر أكثر من 6 أشهر    طاقم تحكيم إماراتي لإدارة مباراة الأخضر والأردن    الطقس : حاراً إلى شديد الحرارة على الرياض والشرقية والقصيم    خادم الحرمين يأمر باستضافة 1000 حاجّ من غزة استثنائياً    تطوير مضاد حيوي يحتفظ بالبكتيريا النافعة    "ميتا" تزوّد "ماسنجر" بميزة المجتمعات    المنتخب السعودي للفيزياء يحصد 5 جوائز عالمية    بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    كيت ميدلتون.. قد لا تعود أبداً إلى ممارسة دورها الملكي    «أرامكو»: 0.73 % من أسهم الشركة لمؤسسات دولية    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    عبدالعزيز عبدالعال ل«عكاظ»: أنا مع رئيس الأهلي القادم    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    استقبال 460 حاجاً من ضيوف خادم الحرمين من 47 دولة    زوجة «سفاح التجمع» تظهر من لندن: نجوت من مصير الفتيات !    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    «التعاون الإسلامي»: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    القيادة تهنئ ملك الأردن    الأمريكي" غورست" يتوج ببطولة العالم للبلياردو    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت    شهد مرحلة من التبادل الثقافي والمعرفي.. "درب زبيدة".. تاريخ طويل من العطاء    "هيئة النقل" تدشن سيارة الرصد الآلي كأول تجربة لها في موسم الحج    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة العراقية الأكثر إثارة للجدل . الكرد أقدم سكان كركوك والتركمان أحدثهم ... والتكارتة أعرق عشائرها العربية
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 2003

يستلزم درس الحال الاجتماعية لأي مدينة درس أوضاعها وبيان علاقتها بالفرد وبالمجتمع، مع الإحاطة بالعوامل والمؤثرات التي تتضافر لتكوين هذه الحياة وتطبعها بطابع خاص. إذ إن الإنسان مرتبط بالبيئة التي يعيش فيها والتي تؤثر فيه ويؤثر فيها وتكيّفه وفق حاجاته ليكون في إمكانه الاندماج فيها.
كان معظم سكان مدينة كركوك العراقية يمارسون سابقاً الحرف والصناعات اليدوية والشعبية التي تحتاجها الزراعة باعتبارها عماد الحياة في هذه المنطقة ذات السهول الواسعة الخصبة. وكان أبناء المنطقة يمارسون الزراعة الشتوية والصيفية في قراها الكثيرة وفي سهولها الفسيحة الخصبة ولكن بطرق بدائية، كما كانوا يربّون المواشي على نطاق واسع. وبطبيعة الحال كان ازدحام السكان يشتد في القرى والأماكن التي توجد فيها المياه النابعة من النهيرات والعيون والينابيع الكثيرة في أطرافها الشمالية والشرقية، ويقل التركيز السكاني في الأماكن الأخرى التي تشح فيها المياه. أما أبناء المدينة فكانوا يمارسون إلى جانب الحرف والصناعات اليدوية التي تحتاجها الزراعة، الأعمال التجارية أيضاً، كما كان بعضهم يشغل وظائف حكومية أو يمارس الخدمات المهنية الأخرى. لكن الحال تغيرت بعد إنشاء المؤسسات النفطية وبدئها بحفر الآبار العديدة ومد خطوط الأنابيب في المنطقة. إذ "تهافت على لواء كركوك آلاف من العمال والمحترفين والفنيين، تتبعهم آلاف أخرى من أصحاب المهن المختلفة وصغار التجار والباعة وطالبي الرزق، فاكتظت المدينة النفطية - لا سيما مدينة كركوك - بهم، ونشطت فيها الحياة وانتعشت أحوالها الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية". وهكذا أدت الصناعة النفطية إلى توجه آلاف العوائل العربية وغير العربية، من آشوريين وأرمن وغيرهم إلى كركوك والاستقرار فيها.
الكرد والتركمان
كان الكرد والتركمان يشكلون منذ العهد العثماني غالبية سكان المدينة، يأتي بعدهما العرب ثم اليهود والكلدان. وورد في "قاموس الأعلام" للرحالة والمؤرخ العثماني المعروف شمس الدين سامي والمنشور في الآستانة عام 1896، لدى تطرقه للحال الاجتماعية لكركوك، "إن ثلاثة أرباع الأهالي من الكرد والبقية من الترك والعرب وغيرهم. ويقيم أيضاً في المدينة 760 يهودياً و460 كلدانياً". وتحدد لنا هذه الموسوعة موقع كركوك مع الإشارة إلى أوضاعها الإدارية والعمرانية وتقول إنها "تقع ضمن ولاية الموصل التابعة لكردستان وعلى بعد 160 كيلومتراً من الجنوب الشرقي لمدينة الموصل، وسط تلول عديدة متحاذية وبجانب واد وسيع يسمى وادي أدهم. وهي مركز أيالة سنجاق شهرزور ولها من النفوس 30000 نسمة، وفيها قلعة و36 جامعاً ومسجداً وسبع مدارس و15 تكية وزاوية و12 خاناً و1282 دكاناً وحانوتاً وثمانية حمامات...".
كان الكرد ولا يزالون يسكنون خصوصاً في الأحياء الشرقية والشمالية من المدينة، لكنهم كانوا يعيشون أيضاً في الأحياء الأخرى مع التركمان وغيرهم. ويشكل الكرد أقدم الأقوام الساكنة في المدينة والمنطقة، يأتي بعدهم التركمان ثم أبناء الأقوام الأخرى الذين استقروا فيها في ما بعد. وجاء في كتاب "دليل تاريخ مشاهير الألوية العراقية" الجزء الثاني الخاص بلواء كركوك الصادر عام 1947 "أن الأتراك أو التركمان كما هو اسمهم الشائع هم أحدث الأقوام عهداً بسكنى لواء كركوك، إذ جاء أسلافهم - على ما يروي المؤرخون - في أواسط القرن السابع عشر الميلادي، ضمن الحملة الكبرى التي جهزها السلطان العثماني مراد الرابع وقادها بنفسه إلى العراق لمحاربة الفرس الصفويين وإنقاذ بغداد من أيديهم". وجاء في المؤلف المذكور أيضاً "أن هذا السلطان بعدما استرجع بغداد وقضى على حكم الصفويين في العراق، أبقى في هذه البلاد حاميات قوية للمحافظة على خط الاتصال بينه وبين بغداد والدفاع عنها، ووزع هذه الحاميات على طول خط وهمي يمر بين المنطقة الكردية والمنطقة العربية من العراق، ويبدأ هذا الخط من بدرة فيتجه نحو الشمال الغربي ماراً بمندلي وقزلرباط وخانقين وقره تبه وكفري وطوزخورماتو وداقوق وكركوك والتون كوبري وأربيل والموصل حتى قصبة تلعفر غرب الموصل. ولا يخفى أن هذا الخط هو الطريق الاستراتيجي الذي يربط الأناضول بالعراق". ويؤكد مؤلفو هذا الكتاب، وهم مجموعة من الباحثين العرب، "أن الأتراك المقيمين في العراق - ومن ضمنهم أتراك لواء كركوك - هم أحفاد رجال تلك الحاميات العثمانية التي أقيمت لحراسة البلاد وتأمين الاتصال العسكري بينها وبين عاصمة العثمانيين، فسكنت المدن والقرى التي أقامت معسكراتها فيها أو بجوارها ثم استوطن رجالها هذه البلاد وامتزجوا بأهلها بمرور الزمن وخلفوا أحفاداً هم اليوم من المواطنين المخلصين".
وأيّد ذلك أيضاً رؤساء الأسر التركية الأصيلة التي تقطن المدينة منذ العهد العثماني، كرؤساء أسرتي نفطجي وآوجي وغيرهما. وورد في المؤلف المشار إليه على لسان رئيس أسرة نفطجي زاده في كركوك عام 1947 وهو ناظم بك بن صالح باشا النفطجي "أن نسب أسرتهم ينتهي إلى قبيلة تركية كانت تسكن آسيا الصغرى الأناضول ثم هاجر بعض أفرادها إلى العراق. وكان جد هذه الأسرة، وهو قهرمان آغا، اكتشف منابع النفط في كركوك ووضع يده عليها وعلى الأراضي المجاورة لها". ثم يضيف أن منصب المتسلمية بقي محصوراً بأسرتهم أجيالاً عدة، يتوارثها الخلف عن السلف، حتى قررت الدولة العثمانية إلغاءه، وكان آخر "متسلم" في لواء كركوك هو عبدالله بك آل النفطجي، جد ناظم بك. وورد التأكيد نفسه على لسان رئيس أسرة آوجي عبدالله آوجي الذي أكد لمؤلف الكتاب أن الأسرة تركية الأصل "ويرجع نسبها إلى عائلة تركية لا يزال بعض أفرادها اليوم في مدينة قونية من أعمال تركيا، وقدم جدها الأكبر أمير خان إلى العراق مع السلطان العثماني مراد الرابع في حملته الشهيرة التي استرجع بها العراق من الفرس".
ويتطرق مؤلف الكتاب نفسه إلى وضع الاثنيات الأخرى الموجودة في المدينة ويذكر "أن الأقليات التي تسكن لواء كركوك في الوقت الحاضر وأهمها الأرمن والنساطرة هاجروا إلى العراق قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى حينما أرغمهم العثمانيون على مغادرة مواطنهم فسكنوا أمهات المدن العراقية، ومنها مدينة كركوك". ثم تشير الموسوعة إلى أن "الديانة السائدة في كركوك هي الإسلام وأن معظم سكانها مسلمون ومتمسكون بدينهم، بدليل كثرة المساجد والتكايا والمعابد والمدارس الدينية الموجودة فيها. والملاحظ أن غالبية رجال الدين في المدينة وفي المنطقة أيضاً، من ملالي وشيوخ الطرق الصوفية هم من الكرد الذين يتمتعون بنفوذ واسع بين الناس. وتعيش في المدينة أيضاً طوائف من المسيحيين والصابئة واليهود قبل تسفيرهم إلى فلسطين في بداية الخمسينات. وكان اليهود يمارسون التجارة والصيرفة وصياغة الذهب، فيما كان الصابئة منهمكين بصياغة الفضة، أما المسيحيون فكانوا يزاولون كبقية السكان مختلف المهن والأعمال، وكان الجميع يعيش في وفاق ووئام".
أما سكان الأقضية والنواحي والقرى خارج المدينة، فكان معظمهم من أبناء العشائر. وكانت معظم هذه العشائر كردية ولها وجود ملحوظ داخل المدينة أيضاً، إذ يسكن الكثيرون من أبنائها في كركوك، خصوصاً من أبناء عشائر زنكنه وطالباني وهه مه وند وجباري وداوده وبرز نجه وكاكه يي وشوان. وشغل منصب رئاسة بلدية كركوك، وهو منصب يشغله عادة من يمثل الأكثرية السكانية في المدينة، عدد من وجوه أسرة طالباني الساكنة في كركوك. إذ كان الشيخ رؤوف طالباني رئيساً لبلدية كركوك خلال العهد العثماني، كما كان أخوه الشيخ حبيب طالباني رئيساً للبلدية للفترة من 1934 حتى نهاية 1948، والمحامي فاضل طالباني من 1953 حتى عام 1958. ومن أسرة البرزنجي التي تسكن كركوك أيضاً، شغل المحامي معروف برزنجي هذا المنصب خلال النصف الأول من عام 1959. وشغل هذا المنصب أيضاً عدد من وجوه الأسر التركمانية المعروفة في كركوك، خصوصاً من أسرتي قيردار وبيريادي في العهد العثماني، ومن أسرة اليعقوبي في العهد الملكي العراقي، كعبدالمجيد اليعقوبي في العشرينات من القرن الماضي وابن أخيه شامل اليعقوبي من 1949 حتى 1953. ولم يشغل أي عربي هذا المنصب لحين مجيء البعث إلى السلطة عام 1968، ولكن بعد ذلك التاريخ أصبح هذا المنصب حكراً على العرب، وأول عربي عينه النظام البعثي لهذا المنصب هو مظهر التكريتي من أبناء كركوك.
كانت الدولة العثمانية تمنح بعض الأسر التركية المتنفذة في المدينة منصب "المتسلمية"، خصوصاً من رؤساء أسرة نفطجي زاده. وكان هذا المنصب يشبه إلى حد كبير النظام الاقطاعي ده ره بكي، لأن "المتسلم" الذي كان يعين بإرادة السلطان العثماني، كان يلتزم إعطاء رسوم مقطوعة إلى الوالي، في مقابل حقه في استيفاء الرسوم المختلفة من الأهالي. وبعد إلغاء هذا النظام عام 1840، أنيطت إدارة كركوك بولاية شهرزور وأصبحت مدية كركوك مركزاً لها حتى عام 1879، وتحولت كركوك منذ ذلك الوقت إلى "سنجق" أي متصرفية تابعة لولاية الموصل. وكانت هذه المتصرفية تضم لحين انتهاء الحرب العالمية الأولى أقضية كركوك وأربيل ورانية ورانيج ورواندوز وكويسنجق وكفري. وبعد تشكيل الدولة العراقية أصبحت كركوك لواء أي محافظة تضم أربعة أقضية هي مركز كركوك وكفري وجم جمال وكيل، ثم نقل مركز قضاء كيل من قرية كوشك إلى قصبة داقوق، وبعدها إلى قصبة طوزخورماتو، قبل أن يقوم النظام البعثي بإلحاق هذا القضاء، بعد استقطاع ناحية داقوق منه، بمحافظة صلاح الدين عام 1976 مع إلحاق قضاء كفري بمحافظة ديالى وقضاءي جم جم ال وكه لار بمحافظة السليمانية.
أما بشأن عدد سكان لواء كركوك، فقدرته الدوائر البريطانية عام 1921 وكانت تحكم كردستان حكماً مباشراً بين 1918 و1925 ب140 ألف نسمة، موزعين على الوجه الآتي: 75 ألفاً من الكرد و35 ألفاً من الأتراك و10 آلاف من العرب، و1400 من اليهود و600 من الكلدان.
وقدر إحصاء لجنة عصبة الأمم لعام 1925 التي زارت المنطقة لتحديد عائدية ولاية الموصل، أن الكرد يشكلون 63 في المئة من سكان كركوك، والتركمان 19 في المئة والعرب 18 في المئة. وكانت الحكومة العراقية قدرت في العام نفسه نسبة الكرد ب59.5 في المئة والتركمان ب21 في المئة والعرب ب19.5 في المئة. ونظراً إلى عدم وجود إحصاء رسمي للسكان في العراق قبل إجراء إحصاء عام 1947، اكتفت معظم المراجع بإيراد تقديرات لعدد نفوس السكان في اللواء. فورد في بعض المراجع الرسمية الصادرة عام 1936 أن عدد نفوس لواء كركوك يقدر ب180.000 نسمة. وقدر مؤلف كتاب "دليل تاريخ مشاهير الألوية العراقية" عدد نفوس اللواء "بنصف مليون نسمة تقريباً، عدا أبناء القبائل الرحالة". وجاء فيه أيضاً أن "العرب يسكنون غالباً في الجهات الجنوبية الغربية المحاذية لمنطقة السهول، وتمتد مساكنهم شرقاً وشمالاً إلى أواسط اللواء حيث يندمجون بالأكراد"، فيما يعيش الكرد "على الأكثر في الأنحاء الشمالية الشرقية المتصلة بمنطقة الجبال، وتمتد مساكنهم جنوباً وغرباً إلى أواسط اللواء حيث يمتزجون بالعرب. أما الأتراك فمعظمهم يسكنون في أواسط اللواء حيث يختلطون بالعرب والأكراد".
ويذكر المؤلف أسماء عدد كبير من وجهاء كركوك من كرد وتركمان وعرب وكلدان وغيرهم. ويلاحظ أن معظم مندوبي لواء كركوك في المجلس النيابي العراقي كانوا من الكرد، يأتي بعدهم التركمان، ثم يليهم العرب في بعض الدورات فقط، خصوصاً بعد توطين عشائر العبيد والجبور في سهل الحويجة في الأربعينات من القرن الماضي. ولم يصنف الإحصاء الرسمي لسنة 1947 سكان اللواء بحسب انتمائهم القومي، لكن الدكتور شاكر خصباك قدر نسبة الكرد في اللواء في أواسط الخمسينات بين 51 في المئة و53 في المئة. والإحصاء الرسمي الوحيد الذي صنف أبناء اللواء بحسب لغة أمهاتهم هو إحصاء عام 1957، كالآتي: العرب 109.620 نسمة، منهم أبناء العشائر العربية الذين وُطنوا في سهل الحويجة في الأربعينات، وتقدر نسبة العرب في اللواء ب28.2 في المئة. أما الكرد فبلغ مجموعهم 187.593 وتقدر نسبتهم ب48.3 في المئة، والتركمان 83.371 ونسبتهم ب21.4 في المئة، وبلغ مجموع نفوس الكلدان والسريان في اللواء 1605.
لذلك يمكن القول إن إحصاء 1957 هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لتحديد الحال السكانية في كركوك. ذلك أن الإحصاءات الأخرى التي نظمت لاحقاً لا تمثل الواقع السكاني، لا في مدينة كركوك ولا في المحافظة برمتها، لأنها أجريت بعد مباشرة النظام العراقي سياسة التطهير العرقي فيها والتي أدت إلى تهجير عشرات الألوف من العوائل الكردية وآلاف من العوائل التركمانية والآشورية إلى خارج المحافظة، مع توطين عشرات الألوف من العوائل العربية التي جلبت من وسط العراق وجنوبه في كركوك وفي المحافظة، وغيّر النظام أيضاً اسم المحافظة إلى "التأميم"، بعد تأميم شركات النفط الأجنبية عام 1972. وكان الهدف الحقيقي من وراء ذلك استبدال الاسم التاريخي للمحافظة باسم آخر. وبقيت منطقة كركوك تحت سيطرة النظام ونفوذه بصورة مستمرة.
وكانت تعيش في المدينة أسر عربية من آل التكريتي ومن غيرهم كالحديدي الذين كان معظمهم يقومون بتربية الأبقار والجواميس في حي فقير يقع جنوب غربي المدينة وليس بعيداً من بناية مدرسة ثانوية كركوك القديمة. وكانت تعيش في المدينة أيضاً أسر عربية أخرى يشغل أربابها وظائف في الدوائر الحكومية من مدنية وعسكرية، أو يعملون مستخدمين وعمالاً في شركة النفط البريطانية أو يمارسون بعض المهن الأخرى. وكانت ثانوية كركوك المدرسة الثانوية الوحيدة في عموم اللواء حتى عام 1955، وكان معظم الطلبة فيها من الكرد والتركمان يأتي بعدهم العرب ثم الآشوريون والكلدان والأرمن. وكان معظم التلاميذ العرب من أبناء الموظفين والعسكريين من منتسبي الفرقة الثانية التي كانت كركوك مقراً لها، أو أبناء بعض العاملين في شركة النفط. وجرت العادة في كركوك منذ القدم على قيام الكرد بدفن موتاهم في مقابر خاصة بهم والتركمان بدفن موتاهم في مقابر أخرى، مع وجود مقابر خاصة بالكلدان وأخرى باليهود. ولم تكن للعرب مقابر خاصة بهم لقلة نفوسهم في المدينة، علماً أن التكارتة العرب كانوا يدفنون موتاهم في المقابر الخاصة بالتركمان. لهذا السبب، عمدت السلطة منذ بداية التسعينات إلى إنشاء مقابر خاصة بالعرب الوافدين إلى كركوك، كما منعت أهالي الوافدين من العرب الشيعة من نقل جثث موتاهم إلى النجف الأشرف، مع تدمير أو تشويه بعض المقابر الخاصة بالكرد والتركمان، بتبديل ألواح بعض القبور الخاصة بالكرد أو بالتركمان ووضع ألواح بأسماء عربية عليها، والهدف من كل ذلك الإيهام بوجود قبور قديمة خاصة بالعرب في المدينة منذ القدم!
وجاء في المؤلف المشار إليه أيضاً أن أسرة التكريتي في كركوك هي الأسرة العربية الأساسية فيها. وأشار المؤلف بإسهاب إلى تاريخ هذه الأسرة وفترة استقرارها في كركوك، مذكراً بأنها تتألف من فرعين كبيرين، أحدهما ينتمي إلى يوسف بك ومعظم أبنائه يسكنون لواء كركوك، وثانيهما ينتمي إلى عمر بك ومعظم أبنائه يقطنون بلدة تكريت وما جاورها. وكان أبوهما شبيب بن علي بن حسين بن ناصر زعيم عشائر عباده العربية القاطنة في منطقة حران في سورية. ويذكر مؤلف هذا الكتاب بلسان رئيس هذه الأسرة في كركوك وهو السيد مظهر التكريتي "إن شبيب جاء إلى العراق عام 1048 للهجرة برفقة السلطان العثماني مراد الرابع الذي استعان به واصطحبه معه في حملته التي قام بها لاسترجاع العراق من الفرس". ثم يضيف: "إن جدهم الأكبر وأتباعه ساهموا مساهمة كبرى في تلك المعارك وكافأ السلطان هذه الأسرة بمنحها عدة قرى وأراضي زراعية في منطقتي كركوك وتكريت لقاء أعمالها". ويبلغ "عدد بيوت هذه الأسرة في لواء كركوك اليوم زهاء 150 بيتاً وهي منتشرة في المنطقة الواقعة بين ناحية ملحة ومدينة كركوك". وأصبح مظهر بن قادر التكريتي رئيساً للأسرة بعد وفاة رئيسها علي بك بن صادق بك، وهو أول عربي يعين رئيساً لبلدية كركوك عام 1969، أي بعد هيمنة البعث على السلطة في العراق.
أما العشائر العربية التي تقطن لواء كركوك، فأهمها عشائر العُبيد التي تقطن سهل الحويجة. وقد "استوطنت سابقاً منطقة الجزيرة الواسعة في شمالي الموصل، وجعلت مساكنها على الفرات الأيمن من الجزيرة المذكورة. وبقيت صاحبة الأمر والنهي فيها مدة من الزمن حتى تمكنت قبائل شمر من التغلب عليها". واستمرت الغزوات بينهما لفترة طويلة من الزمن، "لعشر سنوات أو أكثر"، قبل أن تحتل قبائل شمر أراضي العبيد، فاضطرت هذه الأخيرة إلى الرحيل إلى سهل الحويجة، بعدما تغلبت على البيات والعزّة واغتصبت أراضيهم". لذلك يمكن القول إن مجيئهم إلى منطقة كركوك يأتي بعد الكرد والتركمان، خصوصاً أنهم كانوا يعيشون حياة تنقل وترحال لأنهم كانوا يبحثون عن الكلأ لمواشيهم، لحين وطنتهم الحكومة العراقية في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. وبدأت الحكومة العراقية في عهد وزارة ياسين الهاشمي عام 1935 تنفيذ مشروع ري لتوطين العشائر العربية في سهل الحويجة، وقامت الحكومة بدراسة مشروع لجلب الماء بواسطة جداول متفرعة من نهر الزاب الصغير من مكان يقع إلى الغرب من بلدة التون كوبري، لإحياء هذا السهل المنبسط الواقع في الشمال الغربي من اللواء. وكان الهدف من إنشاء المشروع في الظاهر ري هذا السهل ثم توزيعه في شكل "وحدات استثمارية" زراعية على الفلاحين في اللواء، غير أن الغاية الأساسية كانت منذ البداية توطين عشائر العبيد والجبور الرحالة فيه. وتبين ذلك بوضوح لدى إكمال المشروع، إذ لم تسمح الحكومة بتوطين أبناء بعض أفخاذ عشائر الجاف الذين كانوا يعيشون في منطقة كفري وكله لار في حال تنقل دائم بين المراعي الشتوية والصيفية. وأدت مفاتحة قائمقام قضاء جم جمال آنذاك المرحوم حامد الجاف لوزارة الداخلية بشأن توطين بعض أفخاذ عشائر الجاف في سهل الحويجة، أسوة بالعشائر العربية الرحالة كالعبيد والجبور، إلى نقله إدارياً، فقدم استقالته من الوظيفة. وتبين الهدف من إنشاء هذا المشروع بوضوح لدى مناقشته في مجلس النواب العراقي عام 1935، إذ أشار المسؤولون صراحة إلى أن الغاية من إكمال المشروع هي إسكان عشائر العبيد فيها بسبب حال الغزو والقتال شبه المستمرة بينها وبين عشائر العزة المجاورة لها. ونظراً لأن أبناء هذه العشائر الرحالة لم يكونوا يمتهنون الزراعة قبل توطينهم في سهل الحويجة، خصصت الحكومة العراقية عدداً من المرشدين الزراعيين لتعليمهم طرق الزراعة المختلفة. وهكذا، وبدلاً من توزيع تلك الأراضي على أبناء العشائر الرحالة جميعاً من عرب وكرد، اقتصر توزيعها على أبناء العشائر العربية وحدهم، ويعد ذلك أول عملية استيطان عربية في منطقة كركوك. ويجب القول مع ذلك إن إنشاء هذا المشروع لم يؤد إلى طرد أحد من سهل الحويجة لأنه كان شبه خال بسبب قلة المياه فيه.
كانت العلاقات بين القوميات التي تعيش في مدينة كركوك وفي اللواء عموماً جيدة قبل مجيء البعث إلى السلطة في العراق عام 1963. بل إن التاريخ يحدثنا عن تضامن الكرد والتركمان في تصديهم للمعتدين على أبناء المدينة، كما حدث لدى هجوم أفراد من الجيش الليفي التابع للجيش البريطاني عام 1927 على عدد من الحمامات الخاصة بالنساء في المدينة، بسبب وقوع شجار بينهم وبين بعض الأهالي، فتصدى لهم الكرد والتركمان معاً ببسالة.
وتبين هذا التضامن أيضاً عام 1946 لدى الإضراب المعلن من العمال المنتسبين لشركة النفط الأجنبية المطالبين ببعض حقوقهم المهنية، وكانوا من مختلف قوميات المدينة، فتصدت لهم قوات الشرطة بأمر من الحكومة وقتلت منهم الكثيرين، وتعرف هذه الحادثة بمجزرة كاورباغي العمالية. وحتى في خارج المدينة، فإن علاقة العشائر الكردية مع العشائر العربية كانت جيدة، وكثيراً ما كانوا يتوجهون مع مواشيهم إلى المناطق الكردية خلال فصل الصيف ويستقبلون فيها جيداً، وأحياناً كانوا يدفعون مبلغاً من المال لأصحاب القرى الكردية التي يبقون فيها مدة طويلة لرعي مواشيهم في ربوعها. وكانت لرؤساء عشائر العبيد علاقة متميزة مع رؤساء العشائر الكردية في المنطقة، خصوصاً مع رؤساء عشائر طالباني وداوده وكاكه يي، وحتى مع بعض الوجهاء من كرد وتركمان داخل المدينة، خصوصاً مع السيد أحمد خانقاه وآل النفطجي.
وتغيرت الأوضاع كلياً بعد هيمنة البعث على السلطة منذ بداية 1963، فاستباحت ميليشيات "الحرس القومي" التي انخرط فيها الشباب التركماني بكثرة الأحياء الكردية ودمرت أحياء خاصة بالفقراء الكرد مع زج الكثيرين منهم في المعتقلات والسجون. وأجبر الانقلابيون أيضاً سكان 13 قرية كردية قريبة من كركوك ومن المنشآت النفطية، مع سكان 34 قرية كردية أخرى قريبة منها أيضاً تقع في حدود ناحية دوبز - المعربة تسميتها إلى الدبس - على الرحيل منها، مع جلب عشائر عربية من وسط العراق للتوطن فيها وتوزيع أراضيهم وممتلكاتهم عليهم. وبين 1963 و1988 دمر النظام 779 قرية كردية ضمن محافظة كركوك بما فيها من مقابر الموتى أيضاً. وكانت هذه القرى العامرة تحتوي على 493 مدرسة ابتدائية و598 مسجداً و40 مركزاً صحياً. وعمد النظام أيضاً إلى حرق البساتين والمزارع وتفجير ينابيع المياه الموجودة فيها، بهدف إزالة آثارها نهائياً. وبلغ عدد العوائل المرحّلة من تلك القرى 37726 عائلة فلاحية، تضم الواحدة منها خمسة أشخاص على الأقل. وشمل التدمير في ما بعد قرى التركمان الشيعة أيضاً، خصوصاً في ناحية تازه خورماتو القريبة من كركوك.
أما داخل كركوك فاتخذ النظام إجراءات عدة استهدفت جميعاً طرد الكرد من المدينة، منها نقل أعداد كبيرة من الموظفين في دوائر الدولة الرسمية وشبه الرسمية، بمن فيهم المعلمون والمدرسون إلى وسط العراق وجنوبه، مع استقدام الموظفين العرب من المحافظات الأخرى لإحلالهم محل الكرد. ونقل النظام أيضاً أعداداً كبيرة من العمال الكرد العاملين في منشآت النفط أو قام بتسريحهم من العمل، مع إحلالهم بالعرب الوافدين وتعيينهم في أماكنهم على رغم عدم كفايتهم لأن معظمهم كانوا من أبناء العشائر. وعمدت السلطات العسكرية والأمنية إلى إنشاء الربايا العسكرية فوق المرتفعات والتلال المحيطة بكركوك وبالمنشآت النفطية واعتبارها "مناطق أمنية" يمنع الاقتراب منها، مع زرع الألغام حولها. وسلحت أيضاً العشائر العربية التي وطنت في القرى التي طرد منها الكرد، مع تشكيل وحدات نظامية منهم ومن العشائر العربية القاطنة في قضاء الحويجة، لمساندة الجيش في هجماته على القرى الكردية في اللواء. ومن الإجراءات العنصرية الأخرى التي نفذها النظام، تغيير أسماء المدارس والشوارع وحتى أسماء المحلات التجارية داخل كركوك، بأسماء عربية لا تمت بصلة إلى تاريخ المنطقة.
لقد بذل النظام العراقي ولا يزال جهوداً متواصلة من أجل تعريب مدينة كركوك والقصبات والأقضية والنواحي والقرى التابعة لها، مع جلب المزيد من العوائل والعشائر العربية لتوطينها فيها. ففي داخل المدينة شيَّد ألوف الدور للمستوطنين الجدد أو وزَّع عليهم قطع الأراضي السكنية ووفَّر لهم المال والقروض من طريق المصرف العقاري لبنائها، ووفَّر الأعمال لهم في المنشآت والمعامل الحكومية أو في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية والحزبية، مع تزويدهم بالسلاح، وكذلك الحال بالنسبة إلى العشائر والعوائل العربية التي وطنت في الأراضي العائدة للكرد، حيث زوَّد الجميع بالسلاح. وأمر النظام حديثاً بحفر 1500 بئر ارتوازية للمستوطنين الجدد، إضافة للآبار الأخرى التي حفرت من الأموال المخصصة بموجب القرار الدولي 86 المعروف ببيع النفط من أجل الغذاء. ومنذ عام 1996 لجأ النظام إلى إجراءات عنصرية أخرى إذ أصدر قرارات مخالفة لأحكام الدستور ألزم بموجبها المواطنين غير العرب على تغيير قومياتهم في سجلات الأحوال المدنية إلى العربية. ونفذ هذا الإجراء قبل المباشرة بتنظيم الإحصاء السكاني لعام 1997. ومنذ ذلك الوقت تم ويتم إبعاد ألوف العوائل الكردية من كركوك والمحافظة ممن يرفضون تغيير انتمائهم القومي. ويعيش هؤلاء في مخيمات بائسة وفي ظل ظروف مناخية قاسية صيفاً وشتاء.
واشتدت حملات الترحيل والتهجير من المنطقة منذ عام 1991، بعد إنشاء ما يسمى ب"المنطقة الآمنة" شمال خط العرض 36. وكان النظام يتحاشى سابقاً توطين العشائر العربية في شمال وشمال شرقي المحافظة خوفاً من تعرض المقاتلين الكرد لهم. لكن سكوت السلطة الكردية لعدم "استفزاز" القوات الحكومية في المناطق المحاذية لخط التماس، بناء على نصيحة الأميركيين، شجع النظام على جلب المزيد من العوائل العربية وتوطينها في تلك المناطق، وامتدت حدود مناطق الاستيطان ووصلت إلى الروابي المطلة على قرى خالو بازياني في شرق المحافظة ويارولي في شمالها.
قانوني كردي مقيم في بريطانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.