الكتاب: لمن هذا البياض رواية الكاتب: أنور رجا الناشر: دار النمير - دمشق 2000 رواية الكاتب الفلسطيني أنور رجا الأولى "لمن هذا البياض" تؤثر منذ سطرها الأول أن تقبض على الواقع من خلال رؤية حلمية، أو اذا شئنا الدقة، رؤية كابوسية، حيث الموت يتحول نافذة ساطعة الرؤية يطل من خلالها بطل ميت على مفارقات الحياة، بل على تفاصيل موات تلك الحياة... تفسخها وانحدارها الى مفردات كثيرة من العبث واللامعقول. الرواية "تحكي عن رقدة الموت، تفاصيل الحياة، قسوة العيش، وظلم الواقع، وكأن الموت الحقيقي ليس ذلك الذي يلف الانسان في بياض الكفن ويذهب به الى الحفرة الأخيرة، مقدار ما هو موت الفرح وغيابه شبه الكلي، عن واقع تهرسه بقسوة قوانين الظلم وجبروت الطغيان. بطل رواية أنور رجا "لمن هذا البياض" توفيق يلعب في الرواية كلها دور الراوية، فيتحدث في خطاب هذياني، ولكنه شديد الوعي، عن موت "عاشه". يضعنا الكاتب أمام حادثة موت مفترضة، أو هي حادثة موت يقبل بها صاحبها، إذ هو يترك الرجل يسبل جفنيه، بل يترك المشيعين يضعونه في القبر، مستسلماً لرغبتهم، التي نخال انها توافق رغبته هو في مغادرة حياة كانت بالنسبة اليه جحيماً من العذاب الطويل، ومن فقدان الأمل والضياع. ومن تلك الحفرة الرهيبة، يتطلع بطل الرواية "توفيق" الى ما يدور في عالم الحياة التي غادرها: الذكريات من جهة، والواقع الجديد من جهة أخرى. صور كثيرة تقدمها استرجاعات بطل الرواية في حفرته. هنا يقف الحب في قمة الأحداث إذ يعيدنا الراوية الى حكاية حبه مع "ميرنا" الفتاة الأجنبية التي تعرف اليها حين جاءت ضمن وفد سياحي وقت كان "توفيق" دليلاً سياحياً، فأحبها، وأنجب منها ابنه "عدنان" الذي ولد في وطن أمه ولم يتعرف الى أبيه. حكاية الحب هذه شاءها الكاتب رمزية الدلالات، حيث الحبيبة ذاتها ثمرة زواج غير معلن بين أمها وأحد رجال السياسة الذي مات من دون ان يعترف بهذا الزواج، فيفرض على ثمرة الزواج الإبنة ميرنا حرماناً قاسياً من حق التعرف إلى الأب والعيش في كنفه، وهو ما سوف يتكرر معها ومع حبيبها "توفيق" حين تقف عقلية والده المتزمتة مانعاً دون زواجه من "ميرنا" وتمنعه في الوقت ذاته سلطات بلاده من السفر للالتحاق بها في بلادها هي، ما يجعل العلاقة بين "توفيق" و"ميرنا" معلقة في فضاء الحرمان. هذه العلاقة النبيلة يقدم الكاتب معادلاً موضوعياً لها في علاقة حب عاصف أخرى تنشأ بين صديقه الراعي "صفوان" والراعية "هدبا" وهي علاقة حب تتعرض بدورها لقسوة وطغيان شيخ العشيرة الطاعن في السن والذي ترفضه "هدبا" فيمارس بحقها صنوف الانتقام والعذاب فترة طويلة، لا تنتهي إلا بعد مقتله على يدي احدى زوجاته. بين علاقتي الحب النبيلتين، "توفيق" و"ميرنا" من جهة و"صفوان" و"هدبا" من جهة أخرى ثمة احداث يرويها الكاتب ترسم ملامح القمع السياسي الشديد الذي يعيشه الناس ويعانون وطأته، وهو طوال أحداث الرواية يطل برأسه، فيفسر كثيراً من الوقائع ويلونها بالأسود، حيث يمكن بالاستناد اليه فهم حقيقة ما يجري في ذلك "الوطن المفترض" والذي لا يبوح الكاتب باسمه صراحة، بل يتركه دون تسمية وكأننا به يريد ان يكون مسرح الرواية ومكان احداثها أية بقعة عربية من دون تحديد. والشيء ذاته يمكن قوله عن الزمن. فالكاتب لا يقدم في سياق أحداث الرواية أية وقائع معروفة يمكن ان تشير الى زمن الرواية، بل هو يترك ذلك معلقاً أىضاً في فضاء الاسقاط على الزمن العربي باتساعه الطويل. "لمن هذا البياض" جاءت كلها على لسان الراوية بطل الرواية، وإن كان الكاتب أنور رجا قد عمد الى جعل تذكّره الموجه الى نفسه مميزاً حيث قدمه باللون الأسود عند الطباعة وهو اسلوب محمود سبقه اليه عدد من الكتاب، وان كنا نلاحظ ان هذا الأسلوب قد ناقض نفسه بعض المرات حين جاءت هواجس شخصيات أخرى في الرواية بالأسلوب ذاته. رواية أنور رجا هذه تأتي بعد مجموعتين قصصيتين قدمهما الكاتب خلال السنوات القليلة الماضية، وفيها نقف على لغة بسيطة تعثر على التشويق في الأحداث ذاتها، فيما تحافظ على بنية روائية سلسة على رغم غرائبية الحدث الأساس فيها، والكاتب الذي يقدم مطالعة فنية للواقع العربي بكل تعقيداته وقسوته، يحرص على أن تكون هذه المطالعة شديدة الواقعية وذات ملامح صورية نعرفها ونحفظ كثيراً منها هنا أو هناك لكنه ينجح في توظيفها في صورة فنية من خلال زجّها في حيوات أبطاله الذين يجمعون في وقت واحد بين براءة وبكارة البراري وبين ملامح العصر، والكاتب ينجح في ذلك اكثر ما يكون نجاحه في الرواية في تقديمه بطله "توفيق" نحاتاً يصنع التماثيل في البيت، ولكنه في لحظة ارتطامه بقسوة عادات أبيه وتقاليده يذهب الى النحت في الجبل - أو اذا شئنا الى نحت الطبيعة، ومحاولة اعادة رسمها من جديد، في فعل رمزي، يكثف الارادة من جهة، ويشير من جهة أخرى الى أن هذه الطبيعة هي كل ما تبقى من مساحات لم تطاولها يد التخريب والقمع، ليكتشف ان هذه الطبيعة ذاتها ستورثه العلاقة معها أسباباً جديدة لغضب السلطات عليه ولإعادة زجّه في السجن والتحقيق معه من خلال الاحتكام الى تقويمات "الكومبيوتر".