الكتاب: خضراء كالبحار رواية الكاتب: هاني الراهب الناشر: دار المدى - دمشق 2000 تكاد رواية الكاتب السوري الراحل هاني الراهب "خضراء كالبحار" ان تشكل افتراقاً حاداً عن اجواء ومناخات اعماله الروائية كلها، فهي بمعنى ما تحديق طويل في قضايا الذات، وهموم الروح اكثر منها معالجة لشؤون وشجون اجتماعية عامة، دأب الراحل على تكريس ادبه من اجلها وفي سبيلها، "خضراء كالبحار"، التي صدرت بعد وفاة كاتبها اشبه باستجابة ابداعية لما تبوح به نهايات العمر التي كان يتعجلها المرض العضال، فذهبت بكليتها - الا في خيوط خلفية لا تكاد ترى - نحو تفاصيل العالم الخاص للفنان، بما في تلك التفاصيل من قدرة على اغواء الكتابة الروائية لاستدراجها، وزجها في اتون الحب العاصف، الذي يمكن ان يتفجر في كهولة فنان، فيودي بكل ما في حياته اليومية من رتابة وتكرار، ويأخذه بكليته الى حلبات المغامرة، ودروب الشغب الجميل، في دعوة مفتوحة للحياة في اشكال اخرى، مغايرة... اشكال تحطم الاعتياد، وتبحث في عتمة المجهول عن معنى الآخر وحدود العلاقة معه... عن معنى الجمال ودقيقة ارتباطه الابدي بالروح، وبالرؤية الخاصة، التي يمكن ان تحدد إطاره ومضمونه. في "خضراء كالبحار" يبني هاني الراهب عالماً يتحرك فيه رجل وامرأة: علاقة حب تشبه ان تكون تعويضاً عن عبثية الاختيارات الفاشلة وعن حرب تطل برأسها من خلفية المشهد الاجتماعي، وتقارب في الوقت ذاته اللعنة، التي تقع على مصيرين حائرين فتطحنهما في قسوة تفرضها طبيعة الحب المحرّم، المسكون دوماً بالهواجس والذي يعيش صراعاً لا يتوقف لحظة واحدة مع المحيط الاجتماعي. علاقة حب عاصفة تلك التي تجمع "فراس نصار" الفنان التشكيلي بنورما المتزوجة من الضابط "مهند"، والتي تعيش مع زوجها محنة الحرمان من الاطفال، ولا تنفعها نصائح الاطباء، فيما تزحف آثار العمر على جسدها يوماً بعد يوم، فتهددها بالعقم الابدي. هل يكون الحل في تبني طفل جاء ثمرة علاقة محرّمة بين امرأة خالها المستهترة ورجل غريب؟ "فراس نصار" يقترح طفلاً آخر ينجبانه هو ونورما، ويضع المسألة محلها في سياق آخر. رواية "خضراء كالبحار" تكاد لا تدخر سراً في طيات سطورها، فالكاتب يعلن منذ البدايات الاولى وشايات احداثه فلا يتفاجأ القارئ. انه لا يعتمد تشويق القارئ من خلال تتبع ما سوف يقع في الصفحات اللاحقة، بل يذهب في اتجاه قصد آخر: الاستغراق الكلي في تفاصيل الوقائع المكشوفة ذاتها، فالحب الذي نراه في الرواية مزيجاً من لوعة الروح واحتراقات الجسد، يعيد الراهب سرد وقائعه علينا في مشاهد كثيرة تطفح بالحسيّة، وربما لم تكن مصادفة ان يختار لبطل الرواية - وبطل هذه المشاهد - ان يكون نحاتاً، مهنته العمل على تفاصيل الجسد وتكويناته، حيث يمكن عبر التماثيل وحدها عقد مقارنة فنية وروحية مع جسد الحبيبة، ومع روحها ايضاً، وحيث يمكن كذلك اسقاط حالات الانفعال والغضب على ملامح التمثال، تلك الملامح التي يشاء الفنان العاشق ان تعكس تشوهات صورة الحبيبة في مخيلته في لحظة او زمن ما، الى تلك الحدود التي تجعل منحوتات "فراس نصار" جديدة... غريبة، تثير الحيرة والجدل بين النقاد وعشاق الفن عموماً. هل يمكن استعادة الزمن؟ بل هل يمكن إعادة ترتيب الادوار والمصائر في الحياة الواقعية على ضوء ارادة الحب ورغبات القلب والروح؟ اسئلة يعيد هاني الراهب بثها في رواية تذهب الى تفاصيل حياة رجل وامرأة، لكنها لا تنسى الواقع المحيط، المثقل بآلام الحرب. وهنا لا يتحدث الكاتب في صور مباشرة بمقدار ما يؤشر من بعيد: الاماكن التي يزورها بطلا الرواية، تتحدث بهذا المقدار او ذاك ولكن من دون افصاح كامل. الحرب في "خضراء كالبحار" بمثابة لوحة خلفية تشير الى انحدار الواقع الاجتماعي، الى انهيار القيم وخوائها. ولعل هاني الراهب قد نجح في رمزيته المكشوفة حين اختار للحبيبة زوجاً عسكرياً وعقيماً في الوقت ذاته. المشاهد التي قدمها الكاتب للزوج ورتابة حياته امام جهاز التلفزيون ومع صحن المكسرات، تذكّرنا الى حد بعيد برواية "مدام بوفاري" وبطلتها "ايما" القريبة جداً من بطلة الراهب "ريما"، بل ان ذلك يذكّر الكاتب نفسه بتلك الرواية وبطلتها، فنراه يعلن بين وقت وآخر عن تذكرها، بل ومقارنة بطلتها ببطلة روايته، وفي سياق فكري يلح على الفكرة ذاتها: العلاقة بين دنس الجسد وطهارة الروح من خلال مقاربة لموضوعة الزواج بلا حب، والحب بلا زواج بكل ما يترتب على ذلك من تناقضات. غير ان الراهب يفارق هذه المقاربة في تفصيل آخر اشد ايلاماً، حين يجعل بطلته "ريما" تعيش حياة جنسية كاملة مع زوجها الشرعي، ويطرح من خلال ذلك سؤاله عن ضياع جسدها بين رجلين، شرعي ومحرّم، في واحد من أكثر اسئلة "خضراء كالبحار" حرقة، وحاجة الى حسم، في رواية يصعب على ابطالها حسم اي شيء يتعلق بمصائرهم. قارئ رواية هاني الراهب "خضراء كالبحار"، يجد نفسه طوال الوقت امام بطلين اثنين هما محور الاحداث، ومن حولهما عدد قليل من الشخصيات الثانوية، التي لا تحضر الا لكي تضيء جوانب من حياة البطلين وافكارهما ومشاعرهما. الابطال الثانويون في الرواية اشبه بوسائل ايضاح لتلك الرؤية للكاتب عن طهارة ابطاله الذين يتحركون في الرواية على ارض فكرية فيها الكثير من المثالية النخبوية في لحظات ارتطامها القاسي بجدران الواقع الاجتماعي وقيمه واشتراطاته، خصوصاً ان الكاتب يختار لأبطاله ولأحداث روايتهم حال الصراع المستمر بين وضعه الاجتماعي الحقيقي وما يفرضه من سلوك اخلاقي، وبين حالاتهم كعشاق يعيشون حالات نادرة من الحب الممكن والمستحيل في الوقت ذاته. مقارنة "خضراء كالبحار" مع ما قدمه هاني الراهب خلال حياته من اعمال روائية خصوصاً في عمليه الاهم "ألف ليلة وليلتان" و"الوباء" ترينا ابتعاد الراهب في هذه الرواية كثيراً عن الايديولوجيا وما تفرضه من سطوة تتحول في حد ذاتها الى مناخ واسلوب فني معاً، حيث في "خضراء كالبحار" نشهد اقتراباً اوسع من اللغة الندية والوصف الحسي المفعم بكثير من الشاعرية التي تجعل الرواية برمتها تجولاً لا يبتعد كثيراً عن المشاعر الخاصة او التفاصيل الشخصية التي تعتمل في الصدور وقلّما يفصح عنها الناس. واهمية هذه الرواية تقع في اشاراتها الواضحة احياناً، والمبثوثة غالباً بين السطور، على ما امكن الخراب الاجتماعي والسياسي ان يحدثه في البشر من تشوهات، فالراهب الذي يضع الحرب في الخلفية من الصورة والمشاهد، يشاء ان تكون هذه الخلفية مرآة يمكن من خلال التدقيق فيها الوقوف على حقيقة ما يجري، كما يمكن إعادة قراءة القيم والمفاهيم الكبرى لمجتمع في لحظة تأزمه، لحظة ذهابه القسري نحو خيارات لم يفكر فيها ولم يحسب لها حساباً من قبل. رواية هاني الراهب "خضراء كالبحار" انجزها الكاتب في مرحلة حياته الاخيرة، حين وقع فريسة المرض العضال وما تخللها من عذاب جهنمي كان يعصف بجسم الكاتب وروحه، في مواجهة شبح الموت وغوله المتحفز. انها رواية اللهاث خلف خيوط الحياة الواهية، بكل ما في ذلك اللهاث من إصغاء لنبض القلب ولواعج النفس. رواية تحدق في الهموم الذاتية "الصغيرة" في انتباه ذكي الى ان هذه الهموم "الصغيرة" تشكل مجتمعة الحياة برمتها، والراهب في هذه الرواية يرسل تحية الى الحياة وهو يغادر عتبة الحياة.