شهدت المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير نقلة نوعية في استثمارها لقطاعات الثقافة والرياضة كأدوات فاعلة لتحقيق تأثير عالمي واسع، بما يعكس تحوّلها من دولة تعتمد بشكل رئيس على الاقتصاد التقليدي إلى قوة حضارية ورياضية ذات نفوذ متنامٍ. هذه النقلة لم تكن مجرد تنويع اقتصادي، بل استراتيجية متكاملة لإبراز صورة المملكة الجديدة، وإظهار قدرتها على الجمع بين الأصالة والانفتاح. في الجانب الثقافي، لم تعد الفعاليات مجرد أنشطة ترفيهية محدودة، بل تحولت إلى منصات كبرى لإبراز الهوية السعودية والعمق الحضاري للمجتمع. فقد استطاع مهرجان البحر الأحمر السينمائي استقطاب أكثر من أربعين ألف زائر في دوراته الأخيرة، وأصبح محطة رئيسة لصناعة السينما في المنطقة، فيما شكلت مواسم الرياض والدرعية ملتقى يجمع بين الفنون المحلية والعالمية، من عروض موسيقية ومسرحية ومعارض فنية، جعلت من المملكة مركزًا ثقافيًا إقليميًا. كما شهد قطاع السينما توسعًا غير مسبوق، إذ تجاوز عدد الشاشات 800 شاشة بحلول عام 2024، لتصبح السعودية السوق الأكبر من حيث الإيرادات في الشرق الأوسط بنسبة قاربت 42 %، ما يعكس النمو السريع للاقتصاد الإبداعي كأحد محركات التنويع. أما الرياضة، فقد أصبحت محرّكًا اقتصاديًا وسياحيًا واجتماعيًا مهمًا. فقد نجحت المملكة في استضافة أبرز الفعاليات العالمية مثل: سباقات الفورمولا 1، وبطولات الغولف والملاكمة، إلى جانب التعاقدات الضخمة في كرة القدم التي جذبت أشهر نجوم العالم. وتجاوزت الاستثمارات في هذا القطاع ستة مليارات دولار خلال سنوات قليلة، وأسهمت في رفع مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 52 %، بزيادة تقارب 20 % منذ إطلاق رؤية 2030، كما جذبت هذه الفعاليات ملايين الزوار من الداخل والخارج، وأسست لصورة المملكة كدولة قادرة على تنظيم أحداث كبرى بمعايير عالمية. وتتويجًا لهذه المسيرة، حصلت السعودية على شرف استضافة كأس العالم 2034 لكرة القدم، لتصبح مركزًا رياضيًا عالميًا بامتياز، كما فازت بحق استضافة إكسبو 2030 في الرياض، وهو حدث اقتصادي وثقافي ضخم سيجمع العالم على أرض المملكة، ويتيح لها فرصة استثنائية لعرض تجربتها في التنمية والتحول الاقتصادي، إن هذين الحدثين يمثلان ذروة استخدام القوة الناعمة، ويعكسان الثقة الدولية المتزايدة في قدرات المملكة التنظيمية والاقتصادية. ولا تقتصر أهمية هذه القطاعات على الأبعاد الاقتصادية، بل تمتد إلى كونها أدوات دبلوماسية ناعمة، فالمهرجانات الثقافية توفر منصات للحوار والتبادل بين السعودية والعالم، بينما تمنح الفعاليات الرياضية حضورًا إعلاميًا واسعًا يعزز صورة المملكة في الوعي العالمي، كما أن هذه النجاحات تساهم في تعزيز الانتماء الوطني لدى الشباب، وتفتح أمامهم فرصًا جديدة للتعبير والإبداع والمشاركة في صناعة المشهد الثقافي والرياضي الدولي. اليوم، ترسم السعودية صورة جديدة لنفسها، تقوم على الجمع بين العمق الحضاري والانفتاح العالمي، وتبرهن أن النفوذ لا يُبنى على القوة الاقتصادية والسياسية فقط، بل أيضًا على القدرة على الإلهام الثقافي والرياضي، هذه الصورة تعكس رؤية مستقبلية تجعل من الثقافة والرياضة ركيزتين أساسيتين في القوة الناعمة للمملكة. ولتعزيز هذا المسار، من المهم المضي في تأسيس شراكات طويلة الأمد مع المؤسسات الثقافية والرياضية العالمية، بما يضمن استدامة الحضور السعودي في هذه الساحات، كما يُستحسن الاستثمار في برامج تأهيل الشباب في مجالات الإدارة الفنية والرياضية ليكونوا سفراء للقوة الناعمة في الخارج، إضافة إلى تعزيز التوثيق الإعلامي المتعدد اللغات للإنجازات السعودية بما يضمن وصول رسالتها إلى جمهور عالمي أوسع، بهذه الخطوات، تعزز المملكة مكانتها كقوة ناعمة صاعدة تمزج بين الاقتصاد والثقافة والرياضة لتبني صورة جديدة أمام العالم.