ها هم الاسلاميون المصريون يثيرون معركة دونكيشوتية أخرى موضوعها هذه المرة فيلم سينمائي هو "العري" لايناس الدغيدي والمأخوذ عن قصة للأديب البارز جمال الغيطاني "الحياة" 18 و19 نيسان/ ابريل 1998. وبعيداً عن الجدل الحقوقي حول مفهوم "الحسبة" وما أثاره من لغط واسع إثر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد وما جرى من تعديلات طفيفة على القانون المصري لتقنين هذا المفهوم، تطرح - من جديد - إثر كل معركة من هذا النوع، أسئلة بدهية. فالفيلم الذي اتهمه الاسلاميون أصحاب الدعوة بكل حسم وقطعية بأنه "مخالف للدين الاسلامي وتعاليمه السمحة التي تحافظ على مكارم الأخلاق" وأنه "مليء بالمشاهد الجنسية التي تفسد المجتمع والأسرة والنشء" وأنه "يشوه سمعة مصر..." الخ، هذا الفيلم لم ينجز تصويره بعد! وبالتالي فهو لم يعرض على الشاشة، ولم تتح، بالتأكيد، لأحد من هؤلاء، مشاهدته. ومن المشكوك فيه أن أحدهم قد قرأ القصة الأصلية التي أخذ عنها الفيلم! كما يفهم أيضاً من سياق اتهاماتهم. وهنا تكمن مفارقة أساسية في الخطاب التحريضي الاسلامي أصبحت لاصقة بكل اتهام يساق بحق أي عمل فني أو فكري. فهذا الخطاب يعمل على إثارة الغضب الجماهيري بالصلاح والطلاح. وهو يستخدم الديماغوجيا بأجلى صورها عندما يلقي باتهامات نهائية منطلقاً من اشاعات أو عناوين أو اقتباسات غير دقيقة ومنزوعة من سياق الأعمال التي تتم ادانتها. كما أن هذا الخطاب يحرم على الرأي العام مجرد الاطلاع على تلك الأعمال، ابداعية كانت أم فكرية، منطلقاً من أن لا حاجة للاطلاع عليها ما دام أصحاب "الحل والربط" قد أدانوها وانتهوا، وهم الذين منحوا لأنفسهم - ولم يمنحهم أحد - وصاية تخولهم التحكم في عقول الآخرين وتقرير ما يحق أو لا يحق عيشه للمجموع. وفي عودة الى الفيلم المذكور أعلاه، يطرح تساؤل كبير حول مدى أهمية أو جوهرية فعل المشاهدة كفعل ثقافي جمالي ينبغي أن يكون أساسياً في اطلاق أي أحكام مع أو ضد العمل الفني. ففعل المشاهدة هنا ينبغي - في الحالة الانسانية الطبيعية المعممة - أن يكون هدفاً بحد ذاته، وذلك للحصول على جرعة جمالية تدفع نحو المتعة والسؤال والجدل. ولكن المفاهيم الثلاثة الأخيرة لا تتفق مع رؤية الاسلاميين لموضوعة النقاش في أساسها. فالمشكلة عندهم ليست في نسيج الفيلم كعمل فني، في حين أن النسيج يحتمل التأويل فيما للعمل الفني قوانينه الخاصة وتاريخه الخاص وزمنه الخاص وامتداداته في تاريخ الفنون، عموماً، والفن المعني بالنقاش - ألا وهو السينما - خصوصاً. إن الاسلاميين هنا يتعاملون مع قضية خارج الفيلم وخارج فن السينما بشكل عام. وبالتالي فليس من الضروري لم مشاهدته أو مقاربته. انه عندهم مادة دعاوة أو دعاوة مضادة خاضعة للتقييم "اللاهوتي" الأخلاقي، ليس استناداً الى قوانين الفنون وتاريخها، وانما الى قوانين ومفاهيم مسبقة وجاهزة ومنتهية خاصة بهم يخضعون لها التاريخ والحاضر والمستقبل بكل ظواهره وتجلياته. وهم بذلك لا يعترفون بتراث انساني كوني مشترك صنع حضارات العالم كما ساهم في صنع حضارة المسلمين في أوجهها، وانما ينطلقون من تأويل خاص مغلق دائري لا يتقاطع مع الآخر ولا يعترف بالتنوع والتعدد. ومن هنا تظهر نافلة احالة هؤلاء الى تاريخ البشرية الابداعي بتراكماته ومدارسه وشروط سيرورته الأساسية المتمحورة حول أقانيم جوهرية تكمن في التجاوز والكشف وسبر تناقضات النفس البشرية. فما بالك بالحديث عن جماليات الجسد البشري كأحد أهم منابع الابداع الانساني منذ نشوئه!