قبيل المحاضرة القيمة التي ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة وزعت الجامعة على جميع الحضور ملفا يحتوي ضمن ما يحتوي على كتاب بعنوان (سلمان بن عبد العزيز آل سعود، سيرة توثيقية) للأستاذ الدكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد أستاذ قسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومدير تحرير مجلة الدرعية، وحقيقة فإن عرض كل المعلومات القيمة التي احتواها الكتاب أمر يجيده غيري، لكن الحس الصحافي أبى علي إلا أن أتحسس بل (أتشمم) الرسائل والخطابات والبرقيات التي كتبها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض لأجد فيها رائحة الزمن البعيد الذي كتبت فيه وخصال الرجل الذي خطها أو وقعها، وإن كان الزمن قد مر وتغيرت ظروفه وعلاماته فإن خصال الرجل المسؤول الحريص تزداد توهجا في شكل حرص دون مركزية ودقة وشمولية في التوجيه، ودعوني أستشهد ببعض البرقيات والخطابات، فليس أبلغ من استشهاد بوثيقة تاريخية وقعت منذ أكثر من 62 سنة. لاحظوا عبارة التوجيه التي تكررت في أكثر من خطاب «سنعوا»، وكلمة «سنعوا» في اللهجة المحلية تعني «اعملوا»، لكنها تشترط العمل الصالح التام، فكلمة اعملوا قد تعني عملا حسنا أو عكسه، لكن «سنعوا» تعني إنجاز عمل «سنع» أي جيد ولا تحتمل غير ذلك، وبالرغم من دقة العبارة والاختصار الشديد في جملة التوجيه للموظف المعني أو الجهة المعنية إلا أن طبيعة شدة الحرص تفوح رائحتها الزكية من حروف الخطاب المختصر، أنظر مثلا إلى الخطاب رقم 35048 في 5/12/1374ه، وفيه توجيه لابن جميعة، يقول «سنعوا زهاب للطريق للطلبة الفقراء الذين أبرق عنهم الشيخ أبو بكر لجلالة مولاي وحضروا في طريقهم للحج لكل نفر منهم خمسة ريال ويتوجهون حالا» انتهى، والحرص في نظري هنا هو في تحديد (خمسة ريال لكل نفر)، وبالعودة للمخاطبات الأخرى فإن عدد هؤلاء الطلاب أحد عشر حاجا، ولكن سموه حرص على تحديد خمسة ريالات لكل نفر وكان بإمكانه أن يذكر مبلغا إجماليا يتقاسمونه هم، لكنه أراد أن يستبعد إمكانية أن يستحوذ أحدهم على حصة أكبر من الآخر لأي سبب يخصهم!!، لفتت نظري هذه الدقة والحرص وإلا فإن الملفت في تجاوب الدولة مع مطلب هؤلاء وسرعة الاستجابة والمبلغ الذي يعادل آنذاك مبلغا كبيرا اليوم كل هذه عناصر جذب وفخر لكل صحافي بل كل مواطن وتستحق وقفة أطول من هذه عندما يكون الحديث عن جهود الدولة تحديدا. وفي خطاب آخر، قال سموه: «ابن جميعة، سنعوا عبد الله بن إبراهيم بن محبوب الذي بشر بالسيل على الدرعية بعادة أمثاله في هذا، أمير الرياض 5/4/1374) انتهى، ومثل هذا الخطاب ينقلك إلى زمن غير بعيد نسبة لسرعة المتغيرات، فقد كانت وسيلة الاتصال في ذلك الزمن الحضور الشخصي لكن المكافأة ليست عن العناء وحسب، بل هي عن نقل الخبر السعيد والتسابق على نقله، وهذا التسابق بالمناسبة لا يزال حاصلا لكن عبر رسائل الجوال والزمن القصير نسبة لحجم التغيير هو الزمن الفاصل بين قطع المسافات لنقل بشرى السيل ومجرد ضغطة زر جوال تنقل خبر السيل وصورته ومقطع فيديو ينقل حركته، وما تغير في هذا الأمر هو نقل الخبر أما الفرحة بالسيل والبشرى به فهي باقية حتى أنني أتخيل سلمان يقدم المكافأة لصاحب أول رسالة جوال تبشره بجريان وادي حنيفة أو سيل الدرعية أو غيرهما من وديان وشعاب هذا الوطن، الذي رغم قفزته النوعية لا يزال يفرح بالسيل والربيع ويقطع المسافات بحثا عن الكمأة «الفقع» ومنابت العشب والخزامى والنفل. لقد تميزت خطابات سلمان تلك بالاختصار الشديد والخط اليدوي الجذاب والعبارة اللغوية البسيطة، المباشرة، دون تكلف وفي الوقت ذاته دون ترك أدنى فرصة لسوء الفهم أو التفاسير المختلفة، فكان الأمر الإداري يصدر دقيقا ويسير بسلاسة وينفذ عاجلا، كما هو لا يقبل التأخير أو التأجيل أو الأخذ والرد والاستفسار. الأمر الذي يجب أن لا يفوت على كل متمعن في تلك المخاطبات هو الحرص الشديد في التعامل مع ممتلكات الدولة، والسيارات هنا أنموذجا، فها هو أمير الرياض في الخطاب رقم 5095/2 في 14/5/1376ه يتابع مذكرة وجهها لمدير القراجات الملكية «منذ شهر» بشأن رغبته في الحصول على بيان مفصل بالسيارات الموجودة لدى مراكز الإمارات التابعة لإمارة الرياض ومستعجلا الإجابة، وفي خطاب آخر يخاطب المدير العام للقراشات الملكية الخاصة موجها «سنعوا مع عبد الله العامري سيارة ونيت تسافر إلى مرات ويتوجه معه أمير مرات إلى الدوادمي ومن هناك يقومون مع أمير القويعية في رحلة لخط الطرق التي يلزم أن تسير معها السيارات ثم يعود العامري للرياض وسنعوا السيارة بالمحروقات اللازمة لها ذهابا وإيابا» انتهى. ولاحظ هنا أن أمير الرياض في خطاب مقتضب جدا حدد أعضاء الفريق وخط سيرهم والمهمة التي يجب إنجازها ولم يفت عليه أمر إرجاع السائق ولا «تسنيع» السيارة بالمحروقات ذهابا وإيابا، كل ذلك في سبعة أسطر بخط اليد، وعندما تقرأ مثل هذا التوجيه تلمس مدى الحرص وعدم ترك شيء للصدفة، لقد تخيلت وأنا أقرأ بين سطور الحرص تلك أن سلمان بن عبد العزيز يتعامل مع الناس والأشياء والممتلكات والمهام وكأنه يتعامل مع أسرته في منزله الخاص يوجه بحرص ويحرص ثم يحرص حتى تخاله سيقول «أو تدري أنا أبسنعها». أما خطابه لأمير الخرج رقم 3318/2 في 3/3/1376ه حول توسعة مدى التوضحية بالمبلغ المتفق عليه (14500 ريال) فقد فصل حيثيات المشروع وخطواته والجهات المشرفة عليه وممثليها في ستة أسطر مطبوعة. بين 1374ه و 1432ه تغير كل شيء، وسيلة البشارة وطرق المواصلات والاتصالات والمساحات والمباني والشوارع وقيمة المبالغ وحجمها وطريقة المخاطبات ووسائل كتابتها، وبقي شيء واحد هو تعامل سلمان مع تفاصيلها بذات الحرص الأصيل المتأصل.