تستصعب الكتابة عمن تحب كي لا تتهم بمحاباته ومجاملته، ولكي لا تظلمه ولا تفيه ما هو حقيق به درءاً لتلك التهمة الشاهرة سيفها فوق عنقك. تؤجل لحظة الكتابة تلك حتى تأتيك طارقة بابك محمولة على جناح مناسبة ما تبسط لك العذر، وترفع عنك طائلة اللوم؛ فلا يعود بوسعك أن تتجاهلها، وتصم أذنيك عنها. الصديق الذي أحبه هو الشاعر المبدع جاسم الصحيح، والمناسبة هي فوزه مؤخراً بجائزة البابطين عن فئة أفضل ديوان شعر باللغة العربية عن ديوانه ما قبل الأخير (ما وراء حنجرة المغني) الصادر سنة 2010م. هذه ليست أولى الجوائز التي يفوز بها جاسم وهي على الأرجح لن تكون الأخيرة، ولكنها من بين أهم الجوائز التي أضيفت إلى سجله الحافل بالجوائز، إن لم تكن أهمها بالفعل. ان آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار قد رحل، وهو ما حدث مع رحيل بدوي الجبل وعمر أبو ريشة والجواهري، وسيحدث بعد رحيل سعيد عقل حتماً حين يتعلق الأمر بالشعر وبالأدب عموماً، ربما لا أكره شيئاً أكثر من المجاملات المفرطة والمبالغة في إطلاق الأحكام، وقد كان لجاسم نصيبه الوافر من ذلك من محبيه والمعجبين بشعره، وهم كثر. غير أنني (وهذا هو رأيي الشخصي) لا أحسبني مبالغاً حين أقول إن جاسم هو من بين أهم الأصوات الشعرية العربية التي أعادت للقصيدة الكلاسيكية العمودية ألقها ووهجها الذي خبا كثيراً بعد تتابع رحيل أهم وأبرز الأسماء التي أبدعت في هذا الشكل الشعري الذي ينظر له الكثير من النقاد والشعراء باعتباره غير قادرٍ أو مؤهلٍ لتمثّل روح العصر. المتابع لشعر جاسم يعرف بالطبع أنه لم يقتصر على ذلك الشكل وأن له الكثير من قصائد التفعيلة المتوهجة أيضاً. وسبق له أن فاز بجائزة البابطين أيضاً كما أشار هو في مقالته الأخيرة في هذا المكان عن أفضل قصيدة، وكانت قصيدة تفعيلة سنة 1998م. غير أن الحضور الطاغي لجاسم كشاعر- كما أرى- يتمثل في قصيدته العمودية التي يكتبها بتمكن وبحرفية ومتانة وسلاسة وتفجر موسيقي إيقاعي يذكرك بعمالقة الشعراء العرب الذين كلما رحل واحد منهم عن عالمنا، سارع المولعون بالنهايات إلى القول: إن آخر الشعراء الكلاسيكيين الكبار قد رحل، وهو ما حدث مع رحيل بدوي الجبل وعمر أبو ريشة والجواهري، وسيحدث بعد رحيل سعيد عقل حتماً، وكأن هناك رغبة دفينة و غير معلنة في وضع نهاية لا عودة بعدها لهذا الشكل الشعري الذي لا يزال شعراء مبدعون مثل جاسم الصحيح قادرين على بث روح جديدة فيه.