يقولون: إن الإنسان يحتاج إلى ثلاث سنوات ليتعلم الكلام، لكنه يحتاج لبقية عمره ليتعلم الصمت، وهذه حقيقة تنطبق على بعض الناس الذين تسيطر عليهم شهوة الكلام، وخاصة في التجمعات والمناسبات الحوارية، فبعضهم يحضر للمحاضرة أو الندوة لا ليستفيد بل ليتكلم، وهناك نماذج كثيرة ربما يتعرف عليها القارئ الكريم إذا كان من هواة حضور المناسبات الحوارية، وذلك تحت مسمى المداخلة، وليته يقول كلاما مفيدا وفي صلب موضوع المحاضرة أو الندوة، لكنه يشطح بعيدا عن الموضوع الذي تتم مناقشته، إما ليستعرض عضلاته في المكان غير المناسب، أو ليوهم الناس أنه لا يقل شأنا عنهم في الفهم، أو ليتباهى بأنه تحدث أمام جمهور من المثقفين أو أصحاب الشأن، ولعل هذا يذكرنا بمسرحية «بني صامت» عندما كانت المناقشة تدور حول موضوع من مواضيع المسرحية، فتحدث شخص اعترض عليه أحدهم فرد آخر قائلا: (خله يتكلم علشان إذا راح يقول لاهله انه تحدث في الاجتماع) أو ما هو بهذا المعنى. بعضهم لا يعرف الحكمة القائلة: (قل خيرا أو اصمت) لذلك ما أن يفتح باب المناقشة في أي موضوع حتى يبادر إلى طلب المشاركة مهما كان موضوع المناقشة، ثم لا يلبث أن يتحدث مشرقا ومغربا دون مراعاة للوقت أو احترام لفارس أو فرسان الأمسية والجمهور، والغريب أن بعضهم يبيح لنفسه الحديث في كل شيء: الأدب وعلم النفس والاقتصاد والسياسة، أي كل شيء تتم مناقشته، وذات محاضرة انتقد أحدهم المحاضر وقال: إنني لم أستفد شيئا من محاضرتك فلا جديد فيها، فرد عليه المحاضر بهدوء: ولماذا بقيت حتى نهايتها ما دمت لم تستفد منها، وعلق أحد الحضور: بقي لكي يقول هذا الكلام الذي يفتقر للباقة، لذلك نقول: إن التلقي فن يحتاج إلى تعلم، ويأتي هذا التعلم في مراحل مبكرة من عمر الطفل عندما يعوده أبواه ألا يتكلم إن لم يكن لديه ما يقوله، فالثرثرة لا تصنع الأذكياء، بل تشتت تفكير الناس، وتفقدهم ميزة التركيز، إلى جانب وجوب احترام الطرف الثاني في الحديث، وعدم تسفيه رأيه مهما كان مخالفا، وكما توجد دورات للناشئين لتعلم فن الخطابة، حبذا لو وجدت دورات مماثلة ولكن لتعلم فن الصمت، عندما لا يكون للكلام معنى، فالكلام لمجرد الكلام يودي بالمتكلم إلى مصارع السوء، وقد قيل قديما: (لسانك حصانك.. إن صنته صانك، وإن هنته هانك)، وفي الحديث «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم» والعياذ بالله، ومما ينسب إلى عمرو بن العاص قوله: (الكلام كالدواء، إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل). وهذا بطبيعة الحال لا يعني الصمت حيال ما يوجب الكلام، ولكنه يعني الكلام الواثق المتزن المراعي لمشاعر وأحاسيس الآخرين، والمقدر لآرائهم وطروحاتهم. وإذا كان الكلام الصريح من الحكمة، فإن الكلام الفج والمثير من الحماقة، وكما نتعلم الكلام، علينا أن نتعلم الصمت، حينما يكون الصمت حكمة، فالتلقي فن يحتاج إلى تعلم، ليكون التعليق على ما نتلقى في محله. ومن يحضر محاضرة ويقول للمحاضر، إنك لم تضف لي شيئا في محاضرتك، فهذا يعني عدم التقدير للمحاضر، ولمن اختاره ليقدم محاضرته، بل هو في حقيقته عدم تقدير للذات، فمن يرم بنفسه في مزالق عدم تقدير الآخر، فهو لا يقدر ذاته، لأن فرض الاحترام على الغير يبدأ باحترام الذات، وهذا ما تبتلى به بعض المناسبات الحوارية من أشخاص لا يهمهم سوى «الترزز» في كل مكان، وكأنهم يقولون: ها نحن هنا، وهذا نوع من الفرانويا، كفانا الله واياكم شر الإصابة بهذا الداء.